حتف، فما له من قوة ولا ناصر، ويشهد لصحة هذه الأسباب ما أحاطت به علوم ذوي الألباب من قصة ثعلبة بن حاطب الأنصاري، وتلخيص معناها أن ثعلبة هذا كان من أنصار النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه يوما وقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثر لا تطيقه. ثم أتاه بعد ذلك مرة أخرى، فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ثعلبة أما لك في رسول الله أسوة حسنة، والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهبا وفضة لسارت. ثم أتاه بعد ذلك مرة ثالثة، فقال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالا، والذي بعثك بالحق نبيا لئن رزقني الله مالا لأعطين كل ذي حق حقه. وعاهد الله تعالى على ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اللهم ارزق ثعلبة ما قال.
فاتخذ ثعلبة غنما فنمت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة، فتنحى عنها، ونزل واديا من أوديتها، وهي تنمو كما ينمو الدود، وكان ثعلبة لكثرة ملازمته للمسجد يقال له حمامة المسجد، فلما كثرت الغنم وتنحّى صار يصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر، ويصلي بقية الصلوات في غنمه، فكثرت ونمت حتى بعد عن المدينة، فصار لا يشهد إلا الجمعة، ثم كثرت ونمت فتباعد أيضا عن المدينة حتى صار لا يشهد جمعة ولا جماعة، فكان إذا كان يوم الجمعة خرج يتلقى الناس ويسألهم عن الأخبار، فذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: ما فعل ثعلبة؟ قالوا:
يا رسول الله اتخذ غنما ما يسعها واد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا ويح ثعلبة. فأنزل الله تعالى آية الصدقة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين رجل من بني سليم، ورجل من جهينة وكتب لهما أنصاب «١» الصدقة، وكيف يأخذانها، وقال لهما: مرّا بثعلبة بن حاطب، وبرجل آخر من بني سليم، فخذا صدقاتهما. فخرجا حتى أتيا ثعلبة، فسألاه الصدقة، وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذه إلا جزية، أو ما هذه إلا أخت الجزية؟ انطلقا حتى تفرغا، ثم عودا إليّ، فانطلقا، وسمع بهما السلمي، فنظر إلى خيار إبله، فعزلها للصدقة، ثم استقبلهما بها، فلما رأيا قالا: ما هذا؟ قال: خذاه، فإن نفسي به طيبة، فمرا على الناس وأخذا الصدقات، ثم رجعا إلى ثعلبة، فقال: أروني كتابكما، فقرأه، ثم قال: ما هذه إلا جزية، أو ما هذه إلا أخت الجزية؟ إذهبا حتى أرى رأيا. قال: فذهبا من عنده، وأقبلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآهما قال قبل أن يتكلما: يا ويح ثعلبة، فأنزل الله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ٧٥ فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ٧٦ فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ ٧٧ أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ٧٨
«٢» . وكان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة، فسمع ذلك، فخرج حتى أتاه، فقال:
ويحك يا ثعلبة قد أنزل الله فيك كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يقبل صدقته، فقال: إن الله تعالى منعني أن أقبل منك صدقة، فجعل ثعلبة يحثو التراب على رأسه ووجهه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عملك قد أمرتك، فلم تطعني، فلما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبل صدقته رجع إلى منزله، وقبض «٣» رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل منه شيئا، ثم أتى إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه حين استخلف فقال: قد علمت منزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي من الأنصار، فاقبل صدقتي، فقال أبو بكر رضي الله عنه: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم منك، فلا أقبلها أنا، فقبض أبو بكر رضي الله تعالى عنه، ولم يقبلها، فلما ولي عمر رضي الله عنه أتاه، فقال: يا أمير المؤمنين اقبل صدقتي، فلم يقبلها منه، وقال: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر رضي الله عنه، فأنا لا أقبلها؟ وقبض عمر رضي الله عنه، ولم يقبلها، ثم ولي عثمان بن عفان رضي الله عنه، فسأله أن يقبل صدقته، فقال له: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما، فأنا لا أقبلها. ثم هلك ثعلبة في خلافة عثمان رضي الله عنه.
فانظر إلى سوء عاقبة غدره كيف أذاقه وبال أمره «٤» ووسمه بسمة عار «٥» قضت عليه بخسره، وأعقبه نفاقا يخزيه يوم فاقته وفقره، فأي خزي أرجح من ترك الوفاء بالميثاق، وأي سوء أقبح من غدر يسوق إلى النفاق، وأي