عار أفضح من نقض العهد إذا عدت مساوىء الأخلاق، وكان يقال: لم يغدر غادر قط إلا لصغر همته عن الوفاء واتّضاع قدره عن احتمال المكاره في جنب نيل المكارم.
قال الشاعر:
غدرت بأمر كنت أنت جذبتنا ... إليه وبئس الشيمة الغدر بالعهد «١»
ولما حلف محمد الأمين للمأمون في بيت الله الحرام، وهما وليا عهد، طالبه جعفر بن يحيى أن يقول: خذلني الله إن خذلته، فقال ذلك ثلاث مرات، فقال الفضل بن الربيع: قال لي الأمين في ذلك الوقت عند خروجه من بيت الله: يا أبا العباس أجد نفسي أن أمري لا يتم، فقلت له: ولم ذلك، أعز الله الأمير؟ قال: لأني كنت أحلف وأنا أنوي الغدر وكان كذلك لم يتم أمره.
وورد في أخبار العرب أن الضيزن بن معاوية بن قضاعة، كان ملكا بين دجلة والفرات وكان له هناك قصر مشيد يعرف بالجوسق وبلغ ملكه الشام فأغار على مدينة سابور ذي الأكتاف، فأخذها وأخذ أخت سابور وقتل منهم خلقا كثيرا، ثم إن سابور جميع جيوشا وسار إلى ضيزن فأقام على الحصن أربع سنين لا يصل منه إلى شيء، ثم أن النضيرة بنت الضيزن عركت أي حاضت فخرجت من الربض وكانت من أجمل أهل دهرها، وكذلك كانوا يفعلون بنسائهم إذا حضن، وكان سابور من أجمل أهل زمانه، فرآها ورأته فعشقها وعشقته وأرسلت إليه تقول ما تجعل لي إن دللتك على ما تهدم به هذه المدينة وتقتل أبي؟ فقال: أحكّمك. فقالت: عليك بحمامة مطوقة ورقاء فاكتب عليها بحيض جارية ثم أطلقها فإنها تقعد على حائط المدينة فتتداعى المدينة كلها، وكان ذلك طلمسا لا يهدمها إلا هو، ففعل ذلك.
فقالت له: وأنا أسقي الحرس الخمر فإذا صرعوا فاقتلهم، ففعل ذلك، فتداعت المدينة وفتحها سابور عنوة وقتل الضيزن، واحتمل ابنته النضيرة وأعرس بها «٢» ، فلما دخل بها لم تزل ليلتها تتضرّر وتتململ في فراشها وهو من حرير محشو بريش النعام، فالتمس ما كان يؤذيها فإذا هو ورقة آس التصقت بعكنتها «٣» وأثرت فيها، وقيل: كان ينظر إلى مخ عظمها من صفاء بشرتها، ثم إن سابور بعد ذلك غدر بها وقتلها. قيل إنه أمر رجلا فركب فرسا جموحا وضفر غدائرها بذنبه، ثم استركضه فقطعها، قطعا قطعه الله ما أغدره.
وتقول العرب جزاني جزاء سنّمار، وهو أن أزدجرد بن سابور لما خاف على ولده بهرام وكان قبله لا يعيش له ولد سأل عن منزل صحيح مريء فدّل على ظهر الجزيرة، فدفع ابنه بهرام إلى النعمان وهو عامله على أرض العرب وأمره أن يبني له جوسقا فامتثل أمره، وبنى له جوسقا كأحسن ما يكون وكان الذي بنى الجوسق رجلا يقال له سنّمار، فلما فرغ من بنائه عجبوا من حسنه فقالوا: لو علمت أنكم توفوني أجرته لبنيته بناء يدور مع الشمس حيث درات، فقالوا وإنك لتبني أحسن من هذا ولم تبنه، ثم أمر به فطرح من أعلى الجوسق فتقطع، فكانت العرب تقول جزاني جزاء سنمار.
وممن غدر عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله، غدر بعلي رضي الله عنه وقتله. وعمرو بن جرموز غدر بالزبير بن العوام رضي الله عنه وقتله، وأبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة لعنه الله، غدر بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقتله. وجعل المنصور العهد إلى عيسى بن موسى ثم غدر به وأخره وقدم المهدي عليه، فقال عيسى:
أينسى بنو العبّاس ذبّي عنهم ... بسيفي ونار الحرب زاد سعيرها
فتحت لهم شرق البلاد وغربها ... فذلّ معاديها وعزّ نصيرها
أقطّع أرحاما عليّ عزيزة ... وأبدي مكيدات لها وأثيرها
فلما وضعت الأمر في مستقره ... ولاحت له شمس تلألأ نورها
دفعت عن الأمر الذي أستحقّه ... وأوسق أوساقا من الغدر عيرها «٤»
وخرج قوم لصيد فطردوا ضبعة حتى ألجأوها إلى خباء أعرابي فأجارها وجعل يطعمها ويسقيها، فبينما هو نائم ذات يوم إذ وثبت عليه فبقرت بطنه وهربت، فجاء ابن عمه يطلبه، فوجده ملقى فتبعها حتى قتلها، وأنشد يقول:
ومن يصنع المعروف مع غير أهله ... يلاقي كما لاقى مجير أمّ عامر