ويحول بينهم وبين عدوهم، ويقوي قلوب أصحابه، ويرجّي الضعيف ويمدهم بالكلام الجميل، ويشجع نفوسهم، فمن وقع أقامه ومن وقف حمله ومن كبا به فرسه حماه، حتى ييأس العدو منهم، وهذا أحمدهم شجاعة. وعن هذا قالوا: إن المقاتل من وراء الفارين كالمستغفر من وراء الغافلين، ومن أكرم الكرم الدفاع عن الحرم.
وحكى سيدي أبو بكر الطرطوشي رحمة الله تعالى عليه في كتابه سراج الملوك قال: كان شيوخ الجند يحكون لنا في بلادنا، قالوا: دارت حرب بين المسلمين والكفار، ثم افترقوا، فوجدوا في المعترك قطعة خودة قدر الثلث بما حوته من الرأس، فقالوا: إنه لم ير قط ضربة أقوى منها ولم يسمع بمثلها في جاهلية ولا إسلام، فحملتها الروم وعلقتها في كنيسة لهم، فكانوا إذا عيّروا بانهزامهم يقولون: لقينا أقواما هذا ضربهم، فيرحل أبطال الروم إليها ليروها.
قالوا: ومن الحزم أن لا يحتقر الرجل عدوه وإن كان ذليلا، ولا يغفل عنه وإن كان حقيرا، فكم برغوث أسهر فيلا، ومنع الرقاد ملكا جليلا. قال الشاعر:
فلا تحقرنّ عدوا رماك ... وإن كان في ساعديه قصر
فإنّ السيوف تحز الرقاب ... وتعجز عمّا تنال الإبر
واعلموا أن الناس قد وضعوا في تدبير الحروب كتبا ورتبوا فيها ترتيبا، ولنصف منها أشياء نبدأ منها بما ذكره الله تعالى في القرآن العظيم. قال الله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ
«١» فقوله تعالى: مَا اسْتَطَعْتُمْ
مشتمل على كل ما هو مقدور البشر من العدة والآلة والحيلة. وفسّر النبيّ صلى الله عليه وسلم القوة حين مر على أناس يرمون، فقال: «ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي» .
وأفضل العدة أن تقدم بين يدي اللقاء عملا صالحا من صدقة وصيام ورد المظالم وصلة الرحم ودعاء مخلص، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر، وأمثال ذلك. والشأن كل الشأن في استجادة القواد، وانتخاب الأمراء، وأصحاب الألوية، فقد قالت حكماء العجم: أسد يقود ألف ثعلب خير من ثعلب يقود ألف أسد. فلا ينبغي أن يقدم الجيش إلا الرجل ذو البسالة والنجدة، والشجاعة والجرأة، ثابت الجأش، صارم القلب، صادق البأس، ممن قد توسط الحروب، ومارس الرجال ومارسوه، ونازل الأقران وقارع الأبطال عارفا بمواضع الفرص خبيرا بمواضع القلب والميمنة والميسرة من الحروب، فإنه إذا كان كذلك وصدر الكل عن رأيه كانوا جميعا كأنهم مثله، فإنه إن رأى لقراع الكتائب وجها وإلّا ردّ الغنم إلى الزريبة.
واعلم أن الحرب خدعة عند جميع العقلاء، وكان عظماء الترك يقولون: ينبغي للعاقل العظيم للقياد أن يكون فيه عدة أخلاق من البهائم، شجاعة الديك، وبحث الدجاجة، وقلب الأسد، وحملة الخنزير، وروغان الثعلب، وصبر الكلب على الجراح، وحراسة الكركي، وغارة الذئب، وسمن نغير، وهي دويبة تكون بخراسان تسمن على التعب والشقاء. وكان يقال: أشد خلق الله تعالى عشرة: الجبال، والحديد ينحت الجبال، والنار تأكل الحديد، والماء يطفىء النار، والسحاب يحمل الماء، والريح تصرف السحاب، والإنسان يتقي الريح بجناحيه، والسكر يصرع الإنسان، والنوم يذهب السكر، والهم يمنع النوم. فأشد خلق ربك الهم، اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن.
ومن الحيل في الحرب أن يبث جواسيسه في عسكر عدوه ليستعلم أخبارهم، ويستميل قلوب رؤسائهم، وذوي الشجاعة منهم، فيدس إليهم، ويعدهم وعدا جميلا. ويقوي أطماعهم في نيل ما عنده من الهبات الفخيمة والولايات السنية، وإن رأى وجها عاجلهم بالهدايا وسامهم إما الغدر بصحبهم، وإما الاعتزال وقت اللقاء، ويكتب على السهام أخبارا مزورة، ويرمي بها في جيوشهم. واعلم أن الحيلة لا ترد القضاء والقدر، وأن الدول إذا زالت صارت حيلتها وبالا عليها، وإذا أذن الله تعالى في حلول البلاء كانت الآفة في الحيلة. وقال الحكماء: إذا نزل القضاء كان العطب في الحيلة.
ويغلب الضعف بإقبال دولته كما يغلب القوي ببقاء مدته، فمن الحزم المألوف عند سوّاس الحروب «٢» أن تكون حماة الرجال، وكماة الابطال في القلوب، فإنه إذا انكسر الجناحان كانت العيون ناظرة إلى القلب، فإذا كانت