رايته تخفق وطبوله تضرب كان حصنا للجناحين يأوي إليه كل منهزم، وإذا انكسر القلب تمزق الجناحان. مثال ذلك أن الطائر إذا انكسر أحد جناحيه ترجّى عودته ولو بعد حين، وإذا انكسر الرأس ذهب الجناحان.
وقلّ عسكر انكسر قلبه فأفلح أو تراجع، اللهم إلا أن تكون مكيدة من صاحب الجيش، فيخلي القلب قصدا وتعمدا، حتى إذا توسطه العدو، واشتغل بنهبه انطبق عليه الجناحان. فقد فعل ذلك رجال من أهل الحروب، ويقال: حبب إلى عدوك الفرار بأن لا تتبعهم إذا انهزموا.
ويقال: الشجاع محبب حتى إلى عدوه، والجبان مبغض حتى إلى أمه.
ولما أقبل كسرى بن هرمز إلى محاربة بهرام قال له صاحبه: أما تستعد؟ قال: عدتي ثبات قلبي، وإصابة رأيي، ونصل سيفي، ونصرة خالقي.
وخرج يزيد بن عبد الملك من بعض مقاصيره وعليه درع، وذلك في أيام قتال يزيد بن المهلب، فأنشده مسلمة قول الحطيئة:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار
فقال يزيد: إنما ذاك إذا حاربنا أكفاءنا، وأما مثل هذا ونظرائه فلا. فقام إليه مسلمة، فقبله بين عينيه.
وقيل: لما مات ملك الفرس أرادوا أن يملّكوا عليهم رجلا من آل ساسان، فوفد عليهم بهرام جور فقال:
اعمدوا إلى أسدين جائعين، فاطرحوا بينهما التاج، فمن أخذه فهو الملك. ففعلوا، فدنا منهما فأهويا نحوه، فأخذ برأس أحدهما، فأدناه من رأس الآخر، ثم نطحه به فقتلهما جميعا، وشد على التاج فأخذه ووضعه على رأسه، وملّكته الفرس عليهم.
وقيل: لم يكن في العجم أرمى «١» من الملك بهرام خرج يتصيد يوما، وهو مردف حظيّة «٢» له كان يعشقها، فعرضت له ظباء، فقال: في أي موضع تريدين أن أضع هذا السهم؟ فقالت: أريد أن تشبّه ذكرانها بالإناث وأناثها بالذكران، فرمى ظبيا ذكرا بنشابة ذات شعبتين فاقتلع قرنيه، ورمى ظبية بنشابتين أثبتهما في موضع القرنين، ثم سألته أن يجمع بين ظلف الظبي وأذنه بنشابة، رمى أصل الأذن ببندقة ثم أهوى الظبي برجله إلى أذنه ليحتك، فرماه بنشابة فوصل أذنه بظلفه.
ويقال: إن من أعظم المكايد في الحرب الكمين، وذلك أن الفارس لا يزال على حمية في الدفاع وحمي الذمار حتى يلتفت فيرى وراءه بندا منشورا، ويسمع صوت الطبل، فحينئذ يكون همه خلاص نفسه.
وعليك بانتخاب الفرسان واختيار الأبطال ولا تنس قول الشاعر:
والناس ألف منهم كواحد ... وواحد كالألف إن أمر عنى «٣»
بل قد جرب ذلك، فوجد الواحد خيرا من عشرة آلاف، وسأحكي لك من ذلك ما ترى فيه العجب:
فمن ذلك: لما التقى المستعين بن هود مع الطاغية بن روميل النصراني على مدينة وشقة من ثغور بلاد الأندلس، وكان العسكران كالمتكافئين، كل واحد منهما يقارب عشرين ألف مقاتل خيل ورجل «٤» . فحدث من حضر الوقعة من الأجناد قال: لما دنا اللقاء. قال الطاغية بن روميل لمن يثق بعقله وممارسته للحروب من رجاله:
استعلم لي من في عسكر المسلمين من الشجعان الذين نعرفهم كما يعرفوننا ومن غاب منهم ومن حضر، فذهب، ثم رجع، فقال له: فيهم فلان وفلان، فعد سبعة رجال.
فقال له: انظر من في عسكري من الرجال المعروفين بالشجاعة، ومن غاب منهم، فعدهم، فوجدهم ثمانية رجال لا يزيدون، فقام الطاغية ضاحكا مسرورا، وهو يقول: ما أبيضك من يوم. ثم ثارت الحرب بينهم، فلم تزل المضاربة بين الفريقين لم يول أحدهم دبره، ولا تزحزح عن مقامه، حتى فني أكثر العسكرين، ولم يفر واحد منهم، قال: فلما كان وقت العصر نظروا إلينا ساعة، ثم حملوا علينا جملة وداخلوا مداخلة، ففرقوا بيننا، وصرنا شطرين، وحالوا بيننا وبين أصحابنا، فكان ذلك سبب وهننا وضعفنا، ولم تقم الحرب إلا ساعة ونحن في خسارة معهم، فأشار مقدم العسكر على السلطان أن ينجو بنفسه، وانكسر عسكر المسلمين، وتفرق جمعهم، وملك العدو مدينة وشقة. فليعتبر ذو الحزم والبصيرة من جمع يحتوي على أربعين ألف مقاتل،