ولم يحضره من الشجعان المعدودين إلا خمسة عشر نفرا، وليعتبر بضمان العلج «١» بالظفر واستبشاره بالغنيمة لما زاد في أبطاله رجل واحد.
وحكى سيدي أبو بكر الطرطوشي رحمة الله تعالى عليه قال: سمعت أستاذنا القاضي أبا الوليد يحيى قال: بينما المنصور بن أبي عامر في بعض غزواته إذ وقف على نشز من الأرض مرتفع، فرأى جيوش المسلمين من بين يديه، ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله قد ملأوا السهل والجبل، فالتفت إلى مقدّم العسكر، وهو رجل يعرف بابن المضجعي، فقال له: كيف ترى هذا العسكر أيها الوزير؟
قال: أرى جمعا كثيرا وجيشا واسعا كبيرا، فقال له المنصور: ما ترى هل يكون في هذا الجيش ألف مقاتل من أهل الشجاعة والنجدة والبسالة؟ فسكت ابن المضجعي.
قال له المنصور: ما سكوتك، أليس في هذا الجيش ألف مقاتل؟ قال: لا.
فتعجب المنصور. ثم قال فهل فيهم خمسمائة مقاتل من الأبطال المعدوين؟ قال: لا، فحنق المنصور، ثم قال: أفيهم مائة رجل من الأبطال؟ قال: لا.
قال: أفيهم خمسون رجلا من الأبطال؟ قال: لا. قال:
فسبه المنصور، وأغلظ عليه، وأمر به، فأخرج على أسوأ حال، فلما توسطوا بلاد الروم اجتمعت الروم، وتصافّ الجمعان، فبرز علج من الروم بين الصفين شاكي السلاح «٢» ، وجعل يكر ويفر ويقول: هل من مبارز، فبرز إليه رجل من المسلمين، فتجاولا ساعة، فقتله العلج، ففرح المشركون، وصاحوا، واضطرب المسلمون لها، ثم جعل العلج يموج بين الصفين وينادي: هل من مبارز اثنين لواحد، فبرز إليه رجل من المسلمين، فتجاولا ساعة، فقتله العلج، وجعل يكر ويحمل، وينادي ويقول: هل من مبارز؟ ثلاثة لواحد، فبرز إليه رجل من المسلمين، فقتله العلج، فصاح المشركون، وذل المسلمون، وكادت أن تكون كسرة، فقيل للمنصور: مالها إلا ابن المضجعي؟ فبعث إليه، فحضر. فقال له المنصور: ألا ترى ما صنع هذا العلج الكلب منذ اليوم؟ فقال: لقد رأيته، فما الذي تريد؟ قال: أن تكفي المسلمين شره.
قال: الآن يكفى المسلمون شره إن شاء الله تعالى، ثم قصد إلى رجال يعرفهم، فاستقبله رجل من أهل الثغور على فرس قد تهرت أوراكها هزالا، وهو حامل قربة ماء بين يديه على الفرس، والرجل في حليته، ونفسه غير متصنع، فقال له ابن المضجعي: ألا ترى ما يصنع هذا العلج منذ اليوم قال: قد رأيته، فما الذي تريد؟ قال: أريد أن تكفي المسلمين شره. قال: حبا وكرامة.
ثم إنه وضع القربة بالأرض، وبرز إليه غير مكترث به، فتجاولا ساعة، فلم ير الناس إلا المسلم خارجا إليهم يركض ولا يدرون ما هناك، وإذا برأس العلج يلعب بها في يده، ثم ألقى الرأس بين يدي المنصور، فقال له ابن المضجعي: عن هؤلاء الرجال أخبرتك. قال: فرد ابن المضجعي إلى منزلته، وأكرمه ونصر الله جيوش المسلمين وعساكر الموحدين.
حكي أنه كان للعرب فارس يقال له: ابن فتحون، وكان أشجع العرب والعجم في زمانه، وكان المستعين يكرمه ويعظمه ويجري له في كل عطية خمسمائة دينار، وكانت جيوش الكفار تهابه، وتعرف منه الشجاعة، وتخشى لقاءه.
فيحكى أن الرومي كان إذا سقى فرسه ولم يشرب يقول له:
ويلك لم لا تشرب؟ هل رأيت ابن فتحون في الماء.
فحسده نظراؤه على كثرة العطاء، ومنزلته من السلطان، فوشوا به عند المستعين، فأبعده ومنعه من عطائه. ثم إن المستعين أنشأ غزوة إلى بلاد الروم، فتقابل المسلمون والمشركون صفوفا، ثم برز علج إلى وسط الميدان، ونادى وقال: هل من مبارز؟ فبرز إليه فارس من المسلمين، فتجاولا ساعة، فقتله الرومي، فصاح المشركون سرورا، وانكسرت نفوس المسلمين، وجعل الكلب الرومي يجول بين الصفين وينادي: هل من اثنين لواحد؟ فخرج إليه فارس من المسلمين، فقتله الرومي، فصاح الكفار سرورا، وانكسرت نفوس المسلمين، وجعل الكلب يجول بين الصفين وينادي ويقول: ثلاثة لواحد، فلم يجترىء أحد من المسلمين أن يخرج إليه. وبقي الناس في حيرة، فقيل للسلطان: ما لها إلا أبو الوليد بن فتحون، فدعاه، وتلطف به، وقال له: يا أبا الوليد: أما ترى ما يصنع هذا العلج؟ فقال: ها هو بعيني، قال: فما الحيلة فيه؟ قال: الساعة أكفي المسلمين شره، فلبس قميص كتان، واستوى على سرج فرسه بلا سلاح، وأخذ بيده سوطا طويلا، وفي طرفه عقدة معقودة، ثم برز إليه،