للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فتعجب منه النصراني، ثم حمل كل واحد منهما على صاحبه فلم تخط طعنة النصراني سرج ابن فتحون، وإذا ابن فتحون متعلق برقبة الفرس ونزل إلى الأرض لا شيء منه في السرج، ثم انقلب في سرجه وحمل على العلج وضربه بالسوط، فالتوى على عنقه، فجذبه بيده من السرج، فاقتلعه، وجاء به يجره حتى ألقاه بين يدي المستعين، فعلم المستعين أنه كان قد أخطأ في صنعه مع أبي الوليد بن فتحون، فاعتذر إليه. وأكرمه، وأحسن إليه، وبالغ في الإنعام عليه، ورده إلى أحسن أحواله، وكان من أعز الناس إليه.

وينبغي لقائد الجيش أن يخفي العلامة التي هو مشهور بها. فإن عدوه قد يستعلم حيلته وألوان خيله ورايته، ولا يلزم خيمته ليلا ولا نهارا، وليبدل زيه ويغيّر خيمته كي لا يلتمس عدوه غرة منه، وإذا سكن الحرب، فلا يمشي في النفر اليسير من قومه خارج عسكره، فإن عيون عدوه متجسسة عليه، وبهذا الوجه كسر المسلمون جيوش أفريقية عند فتحها، وذلك أن الحرب سكنت وسط النهار، فجعل مقدم العدو يمشي خارج عسكره يتميز عساكر المسلمين، فجاء الخبر إلى عبد الله بن أبي السرح وهو نائم في قبته، فخرج فيمن وثق به من رجاله، وحمل على العدو، فقتل الملك، وكان الفتح.

وبمثل هذا قهر ألب أرسلان ملك الترك، ملك الروم وقمعه وقتل رجاله وأباد جمعه. وكانت الروم قد جمعت جيوشا يقل أن يجمع لغيرهم من بعدهم مثلها، وكان قد بلغ عددهم ستمائة ألف، كتائب متواصلة، وعساكر مترادفة، وكراديس «١» يتلو بعضها بعضا، لا يدركهم الطرف ولا يحصيهم العدد، وقد استعدوا من الكراع والسلاح والمجانيق «٢» ، والآلات المعدة للحروب، وفتح الحصون بما لا يحصى، وكانوا قد قسموا بلاد المسلمين الشام والعراق، ومصر، وخراسان، وديار بكر، ولم يشكوا أن الدولة قد دارت لهم، وأن نجوم السعود قد خدمتهم، ثم استقبلوا بلاد المسلمين فتواترت أخبارهم إلى بلاد المسلمين، واضطربت لهم ممالك أهل الإسلام، فاحتشد للقائهم الملك ألب أرسلان، وهو الذي يسمى الملك العادل، وجمع جموعه بمدينة أصبهان، واستعد بما قدر عليه، ثم خرج يؤمهم «٣» ، فلم يزل العسكران يتدانيان إلى أن عادت طلائع المسلمين إلى المسلمين، وقالوا لألب أرسلان: غدا يتراءى الجمعان، فبات المسلمون ليلة الجمعة، والروم في عدد لا يحصيهم إلا الله الذي خلقهم، وما المسلمون فيهم إلا أكلة جائع، فبقي المسلمون وجلين لما دهمهم، فلما أصبحوا صباح يوم الجمعة نظر بعضهم إلى بعض، فهال المسلمين ما رأوا من كثرة العدو، فأمر ألب أرسلان أن يعد المسلمين، فبلغوا اثني عشر ألفا فكانوا كالشامة البيضاء في الثور الأسود، فجمع ذوي الرأي من أهل الحرب والتدبير والشفقة على المسلمين، والنظر في العواقب، واستشارهم في استخلاص أصوب الرأي، فتشاوروا برهة، ثم اجتمع رأيهم على اللقاء، فتوادع القوم وتحاللوا وناصحوا الإسلام وأهله، وتأهبوا أهبة اللقاء، وقالوا لألب أرسلان:

بسم الله نحمل عليهم.

فقال ألب أرسلان: يا معشر أهل الإسلام أمهلوا، فإن هذا يوم الجمعة، والمسلمون يخطبون المنابر، ويدعون لنا في شرق البلاد وغربها، فإذا زالت الشمس، وعلمنا أن المسلمين قد صلّوا، ودعوا الله أن ينصر دينه حملنا عليهم إذ ذاك، وكان ألب أرسلان قد عرف خيمة ملك الروم وعلامته وزيه وزينته وفرسه، ثم قال لرجاله: لا يتخلف أحد منكم أن يفعل كفعلي، ويتبع أثري، ويضرب بسيفه، ويرمي سهمه حيث أضرب بسيفي، وأرمي بسهمي، ثم حمل برجاله حملة رجل واحد إلى خيمة ملك الروم، فقتلوا من كان دونها، ووصلوا إلى الملك، فقتلوا من كان دونه، وجعلوا ينادون بلسان الروم قتل الملك قتل الملك، فسمعت الروم أن ملكهم قد قتل فتبددوا، وتمزقوا كل بمزق، وعمل السيف فيهم أياما، وأخذ المسلمون أموالهم، وغنائمهم، وأتوا بالملك أسيرا بين يدي ألب أرسلان والحبل في عنقه.

فقال له ألب أرسلان: ماذا كنت تصنع بي لو أسرتني؟

قال: وهل تشك أنني كنت أقتلك، فقال له ألب أرسلان:

أنت أقل في عيني من أن أقتلك اذهبوا به، فبيعوه لمن يزيد فيه، فكان يقاد والحبل في عنقه، وينادى عليه من يشتري ملك الروم، وما زالوا كذلك يطوفون به على الخيام، ومنازل المسلمين، وينادون عليه بالدراهم والفلوس، فلم

<<  <   >  >>