فسألته عن ذلك فقال: ركبت حيث يمشي الناس، فكان حقا على الله أن يرجلني حيث يركب الناس.
ومما جاء في المكافأة ما حكي عن الحسن بن سهل قال: كنت يوما عند يحيى بن خالد البرمكي وقد خلا في مجلسه لإحكام أمر من أمور الرشيد، فبينما نحن جلوس إذ دخل عليه جماعة من أصحاب الحوائج، فقضاها لهم، ثم توجهوا لشأنهم، فكان آخرهم قياما أحمد بن أبي خالد الأحول، فنظر يحيى إليه والتفت إلى الفضل ابنه، وقال: يا بني إن لأبيك مع أبي هذا الفتى حديثا، فإذا فرغت من شغلي هذا، فاذكرني أحدثك به، فلما فرغ من شغله، وطعم «١» قال له ابنه الفضل: أعزك الله يا أبي، أمرتني أن أذكرك حديث أبي خالد الأحول، قال: نعم يا بني. لما قدم أبوك من العراق أيام المهدي كان فقيرا لا يملك شيئا، فاشتد بي الأمر إلى أن قال لي من في منزلي: إنا قد كتمنا حالنا وزاد ضررنا ولنا اليوم ثلاثة أيام ما عندنا شيء نقتات به، قال:
فبكيت يا بني لذلك بكاء شديدا، وبقيت ولهان وحيران مطرقا مفكرا، ثم تذكرت منديلا كان عندي، فقلت لهم:
ما حال المنديل؟ فقالوا: هو باق عندنا، فقلت ادفعوه لي، فأخذته، ودفعته إلى بعض أصحابي وقلت له: بعه بما تيسر، فباعه بسبعة عشر درهما، فدفعتها إلى أهلي، وقلت: أنفقوها إلى أن يرزق الله غيرها.
ثم بكرت من الغد إلى باب أبي خالد وهو يومئذ وزير المهدي، فإذا الناس وقوف على داره ينتظرون خروجه، فخرج عليهم راكبا، فلما رآني سلم عليّ، وقال: كيف حالك؟ فقلت: يا أبا خالد ما حال رجل يبيع من منزله بالأمس منديلا بسبعة عشر درهما، فنظر إليّ نظرا شديدا، وما أجابني جوابا.
فرجعت إلى أهلي كسير القلب، وأخبرتهم بما اتفق لي مع أبي خالد، فقالوا: بئس والله ما فعلت. توجهت إلى رجل كان يرتضيك لأمر جليل، فكشفت له سرك وأطلعته على مكنون أمرك، فأزريت عنده بنفسك وصغرت عنده منزلتك بعد أن كنت عنده جليلا، فما يراك بعد اليوم إلا بهذه العين.
فقلت: قد قضي الأمر الآن بما لا يمكن استدراكه، فلما كان من الغد بكرت إلى باب الخليفة، فلما بلغت الباب استقبلني رجل، فقال لي: قد ذكرت الساعة بباب أمير المؤمنين، فلم ألتفت لقوله، فاستقبلني آخر، فقال لي، كمقالة الأول، ثم استقبلني حاجب أبي خالد، فقال لي: أين تكون قد أمرني أبو خالد بإجلاسك إلى أن يخرج من عند أمير المؤمنين. فجلست حتى خرج، فلما رآني دعاني، وأمر لي بمركب، فركبت وسرت معه إلى منزله، فلما نزل قال: عليّ بفلان وفلان الحنّاطين «٢» ، فأحضرا، فقال لهما: ألم تشتريا مني غلات السواد بثمانية عشر ألف ألف درهم؟ قالا: نعم، قال: ألم أشترط عليكما شركة رجل معكما؟ قالا: بلى، قال: هو هذا الرجل الذي اشترطت شركته لكما، ثم قال لي: قم معهما، فلما خرجنا قالا لي: ادخل معنا بعض المساجد حتى نكلمك في أمر يكون لك فيه الربح الهنيء، فدخلنا مسجدا، فقالا لي: إنك تحتاج في هذا الأمر إلى وكلاء وأمناء وكيالين وأعوان ومؤن لم تقدر منها على شيء، فهل لك أن تبيعنا شركتك بمال نعجله، فتنتفع به، ويسقط عنك التعب والكلف؟ فقلت لهما: وكم تبذلان لي؟ فقالا: مائة ألف درهم، فقلت لا أفعل، فما زالا يزيداني وأنا لا أرضى إلى أن قالا لي: ثلاثمائة ألف درهم ولا زيادة عندنا على هذا، فقلت: حتى أشاور أبا خالد. قالا: ذلك لك. فرجعت إليه وأخبرته، فدعا بهما، وقال لهما: هل وافقتماه على ما ذكر؟ قال: نعم. قالا: اذهبا، فاقبضاه المال الساعة.
ثم قال لي: أصلح أمرك وتهيأ فقد قلدتك العمل.
فأصلحت شأني وقلدني ما وعدني به، فما زلت في زيادة حتى صار أمري إلى ما صار. ثم قال لولده الفضل: يا بني فما تقول في ابن من فعل بأبيك هذا الفعل، وما جزاؤه؟
قال: حق لعمري وجب عليك له، فقال: والله يا ولدي ما أجد له مكافأة غير أني أعزل نفسي وأوليه، ففعل ذلك رضي الله عنه، وهكذا تكون المكافأة.
ومن ذلك ما حكي عن العباس صاحب شرطة المأمون قال: دخلت يوما مجلس أمير المؤمنين ببغداد وبين يديه رجل مكبل بالحديد، فلما رآني قال له: عباس، قلت لبيك يا أمير المؤمنين، قال: خذ هذا إليك فاستوثق منه، واحتفظ به، وبكر به إليّ في غد واحترز عليه كل الاحتراز.
قال العباس: فدعوت جماعة، فحملوه ولم يقدر أن يتحرك فقلت في نفسي مع هذه الوصية التي أوصاني بها أمير المؤمنين من الاحتفاظ به ما يجب إلا أن يكون معي في بيتي، فأمرتهم، فتركوه في مجلس لي في داري، ثم