أخذت أسأله عن قضيته، وعن حاله، ومن أين هو، فقال:
أنا من دمشق، فقلت جزى الله دمشق وأهلها خيرا، فمن أنت من أهلها؟ قال: وعمن تسأل؟ قلت: أتعرف فلانا؟
قال: ومن أين تعرف ذلك الرجل؟ فقلت: وقع لي معه قضية. فقال: ما كنت بالذي أعرفك خبره حتى تعرفني قضيتك معه.
فقال: ويحك كنت مع بعض الولاة بدمشق، فبغى أهلها وخرجوا علينا حتى أن الوالي تدلى في زنبيل من قصر الحجاج، وهرب هو وأصحابه، وهربت في جملة القوم، فبينما أنا هارب في بعض الدروب، وإذا بجماعة يعدون خلفي، فما زلت أعدو أمامهم حتى فتهم، فمررت بهذا الرجل الذي ذكرته لك، وهو جالس على باب داره، فقلت: أغثني أغاثك الله، قال: لا بأس عليك أدخل الدار، فدخلت، فقالت زوجته: أدخل تلك المقصورة فدخلتها، ووقف الرجل على باب الدار، فما شعرت إلا وقد دخل والرجال معه يقولون هو والله عندك، فقال:
دونكم الدار، ففتشوها حتى لم يبق سوى تلك المقصورة وامرأته فيها، فقالوا: هو ههنا، فصاحت بهم المرأة ونهرتهم فانصرفوا، وخرج الرجل وجلس على باب داره ساعة وأنا قائم أرجف ما تحملني رجلاي من شدة الخوف، فقالت المرأة: اجلس لا بأس عليك، فجلست، فلم ألبث حتى دخل الرجل، فقال: لا تخف قد صرف الله عنك شرهم، وصرت إلى الأمن والدعة إن شاء الله تعالى.
فقلت له: جزاك الله خيرا.
فما زال يعاشرني أحسن معاشرة وأجملها، وأفرد لي مكانا في داره، ولم يحوجني إلى شيء، ولم يفتر عن تفقد أحوالي، فأقمت عنده أربعة أشهر في أرغد عيش وأهنئه إلى أن سكنت الفتنة وهدأت وزال أثرها، فقلت له: أتأذن لي في الخروج حتى أتفقد حال غلماني، فلعلي أقف منهم على خبر، فأخذ عليّ المواثيق بالرجوع إليه، فخرجت وطلبت غلماني، فلم أر لهم أثرا، فرجعت إليه، وأعلمته الخبر، وهو مع هذا كله لا يعرفني، ولا يسألني، ولا يعرف اسمي، ولا يخاطبني إلا بالكنية، فقال: علام تعزم؟ فقلت: عزمت على التوجه إلى بغداد، فقال: القافلة بعد ثلاثة أيام تخرج، وها أنا أقد أعلمتك. فقلت له: إنك تفضلت عليّ هذه المدة، ولك عليّ عهد الله أني لا أنسى لك هذا الفضل، ولأوفينك مهما استطعت، قال: فدعا غلاما له أسود، وقال له: أسرج الفرس الفلاني، ثم جهز آلة السفر، فقلت في نفسي: أظن أنه يريد أن يخرج إلى ضيعة أو ناحية من النواحي، فأقاموا يومهم ذلك في كد وتعب.
فلما كان يوم خروج القافلة جاءني السحر، وقال لي:
يا فلان قم فإن القافلة تخرج الساعة، وأكره أن تنفرد عنها، فقلت في نفسي: كيف أصنع، وليس معي ما أتزود به ولا ما أكري به مركوبا «١» ، ثم قمت، فإذا هو وامرأته يحملان بقجة من أفخر الملابس وخفين جديدين وآلة السفر، ثم جاءني بسيف، ومنطقة، فشدهما في وسطي، ثم قدم بغلا، فحمل عليه صندوقين وفوقها فرش، ودفع إلي نسخة ما في الصندوقين، وفيهما خمسة آلاف درهم، وقدم إلي الفرس الذي كان جهزه، وقال: اركب، وهذا الغلام الأسود يخدمك ويسوس مركوبك. وأقبل هو وامرأته يعتذران إلي من التقصير في أمري، وركب معي يشيعني، وانصرفت إلى بغداد، وأنا أتوقع خبره لأفي بعهدي له في مجازاته ومكافأته، وأشغلت مع أمير المؤمنين، فلم أتفرغ أن أرسل إليه من يكشف خبره، فلهذا أنا أسأل عنه.
فلما سمع الرجل الحديث قال: لقد أمكنك الله تعالى من الوفاء، ومكافأته على فعله ومجازاته على صنيعه بلا كلفة عليك، ولا مؤنة تلزمك، فقلت: وكيف ذلك؟ قال:
أنا ذلك الرجل، وإنما الضر الذي أنا فيه غيّر عليك حالي، وما كنت تعرفه مني، ثم لم يزل يذكر لي تفاصيل الأسباب حتى أثبت معرفته. فما تمالكت أن قمت وقبّلت رأسه، ثم قلت له: فما الذي أصارك إلى ما أرى؟
فقال: هاجت بدمشق فتنة مثل الفتنة التي كانت في أيامك، فنسبت إليّ، وبعث أمير المؤمنين بجيوش فأصلحوا البلد، وأخذت أنا وضربت إلى أن أشرفت على الموت، وقيدت وبعث بي إلى أمير المؤمنين، وأمري عنده عظيم وخطبي لديه جسيم، وهو قاتلي لا محالة، وقد أخرجت من عند أهلي بلا وصية، وقد تبعني من غلماني من ينصرف إلى أهلي بخبري، وهو نازل عند فلان، فإن رأيت أن تجعل من مكافأتك لي أن ترسل من يحضره لي حتى أوصيه بما أريد، فإن أنت فعلت ذلك، فقد جاوزت حد المكافأة وقمت لي بوفاء عهدك.
قال العباس: قلت: يصنع الله خيرا. ثم أحضر حدادا في الليل فك قيوده، وأزال ما كان فيه من الأنكال «٢» وأدخله حمام داره، وألبسه من الثياب ما احتاج إليه، ثم