للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قضيت صلاتي إذ أنا بأعمى يلتمس، فقلت: ما تريد يا هذا؟ قال: إياك أريد. قلت: فما حاجتك؟ فجاء حتى جلس إلى جانبي، وقال: شممت منك رائحة طيبة، فظننت أنك من أهل النعيم فأردت أن أحدثك بشيء، فقلت: قل.

قال: ألا ترى إلى باب هذا القصر؟ قلت: نعم، قال:

هذا قصر كان لأبي، فباعه، وخرج إلى خراسان وخرجت معه فزالت عنا النعم التي كنا فيها، وعميت، فقدمت هذه المدينة، فأتيت صاحب هذا الدار لأسأله شيئا يصلني به وأتوصل إلى سوار، فإنه كان صديقا لأبي، فقلت: ومن أبوك؟ قال: فلان بن فلان، فعرفته، فإذا هو كان من أصدق الناس إليّ، فقلت له: يا هذا إن الله تعالى قد أتاك بسوار، منعه من الطعام والنوم والقرار، حتى جاء به، فأقعده بين يديك، ثم دعوت الوكيل، فأخذت الدراهم منه، فدفعتها إليه، وقلت له: إذا كان الغد فسر إلى منزلي.

ثم مضيت، وقلت: ما أحدّث أمير المؤمنين بشيء أظرف من هذا، فأتيته، فاستأذنت عليه فأذن لي، فلما دخلت عليه حدثته بما جرى لي فأعجبه ذلك وأمر لي بألفي دينار، فأحضرت، فقال: إدفعها إلى الأعمى، فنهضت لأقوم، فقال: إجلس، فجلست، فقال: أعليك دين؟ قلت: نعم. قال: كم دينك؟ قلت: خمسون ألفا، فحادثني ساعة، وقال امض إلى منزلك، فمضيت إلى منزلي فإذا بخادم معه خمسون ألفا، وقال: يقول لك أمير المؤمنين اقض بها دينك. قال: فقبضت منه ذلك، فلما كان من الغد أبطأ علي الأعمى، وأتاني رسول المهدي يدعوني فجئته، فقال: قد فكرت البارحة في أمرك، فقلت: يقضي دينه، ثم يحتاج إلى القرض أيضا، وقد أمرت لك بخمسين ألفا أخرى، قال: فقبضتها وانصرفت، فجاءني الأعمى، فدفعت إليه الألفي دينار، وقلت له: قد رزقك الله تعالى بكرمه، وكافأك على إحسان أبيك، وكافأني على إسداء المعروف إليك، ثم أعطيته شيئا آخر من مالي، فأخذه وانصرف. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ومما هو أوضح حسنا وأرجح معنى ما حكاه القاضي يحيى بن أكثم رحمة الله عليه قال:

دخلت يوما على الخليفة هارون الرشيد ولد المهدي وهو مطرق مفكّر، فقال لي: أتعرف قائل هذا البيت؟:

الخير أبقى وإن طال الزمان به ... والشر أخبث ما أوعيت من زاد

فقلت يا أمير المؤمنين: إن لهذا البيت شأنا مع عبيد بن الأبرص فقال: عليّ بعبيد، فلما حضر بين يديه قال له:

أخبرني عن قضية هذا البيت، فقال: يا أمير المؤمنين، كنت في بعض السنين حاجا، فلما توسطت البادية في يوم شديد الحر سمعت ضجة عظيمة في القافلة ألحقت أولها بآخرها، فسألت عن القصة، فقال لي رجل من القوم:

تقدم تر ما بالناس، فتقدمت إلى أول القافلة، فإذا أنا بشجاع «١» أسود فاغر فاه كالجذع وهو يخور كما يخور الثور ويرغو كرغاء البعير، فهالني أمره وبقيت لا أهتدي إلى ما أصنع في أمره، فعدلنا عن طريقه إلى ناحية أخرى، فعارضنا ثانيا، فعلمت أنه لسبب ولم يجسر أحد من القوم أن يقربه، فقلت: أفدي هذا العالم بنفسي وأتقرب إلى الله تعالى بخلاص هذه القافلة من هذا، فأخذت قربة من الماء، فتقلدتها وسللت سيفي وتقدمت. فلما رآني قربت منه سكن، وبقيت متوقعا منه وثبة يبتلعني فيها، فلما رأى القربة فتح فاه، فجعلت فم القربة فيه، وصببت الماء كما يصب في الإناء، فلما فرغت القربة تسيب في الرمل ومضى، فتعجبت من تعرضه لنا وانصرافه عنّا من غير سوء لحقنا منه. ومضينا لحجنا ثم عدنا في طريقنا ذلك وحططنا في منزلنا ذلك في ليلة مظلمة مدلهمة، فأخذت شيئا من الماء وعدلت إلى ناحية عن الطريق، فقضيت حاجتي ثم توضأت وصليت، وجلست أذكر الله تعالى، فأخذتني عيني «٢» ، فنمت مكاني، فلما استيقظت من النوم لم أجد للقافلة حسا، وقد ارتحلوا وبقيت منفردا لم أر أحدا، ولم أهتد إلى ما أفعله، وأخذتني حيرة وجعلت أضطرب وإذا بصوت هاتف أسمع صوته ولا أرى شخصه يقول:

يا أيها الشخص المضلّ مركبه ... ما عنده من ذي رشاد يصحبه

دونك هذا البكر «٣» منّا تركبه ... وبكرك الميمون حقّا تجنبه «٤»

حتى إذا ما الليل زال غيهبه «٥» ... عند الصباح في الفلا تسيبه «٦»

<<  <   >  >>