فنظرت، فإذا أنا ببكر قائم عندي، وبكري إلى جانبي، فأنخته وركبته وجنّبت بكري، فلما سرت قدر عشرة أميال لاحت لي القافلة، وانفجر الفجر، ووقف البكر، فعلمت أنه قد حان نزولي فتحولت إلى بكري وقلت:
يا أيها البكر قد أنجيت من كرب ... ومن هموم تضلّ المدلج الهادي «١»
ألا تخبّرني بالله خالقنا ... من ذا الذي جاد بالمعروف في الوادي
وارجع حميدا فقد بلّغتنا مننا ... بوركت من ذي سنام رائح غادي
فالتفت البكر إليّ وهو يقول:
أنا الشجاع الذي ألفيتني رمضا ... والله يكشف ضرّ الحائر الصادي «٢»
فجدت بالماء لما ضنّ حامله ... تكرّما منك لم تمنن بإنكاد
فالخير أبقى وإن طال الزمان به ... والشرّ أخبث ما أوعيت من زاد
هذا جزاؤك مني لا أمنّ به ... فاذهب حميدا رعاك الخالق الهادي
فعجب الرشيد من قوله وأمر بالقصة والأبيات، فكتبت عنه، وقال: لا يضيع المعروف أين وضع، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
الباب الثالث والاربعون في الهجاء ومقدماته
القصد من الهجاء الوقوف على ملحه وما فيه من ألفاظ فصيحة ومعان بديعة، لا التشفي بالأعراض والوقوع فيها.
وليس الهجاء دليلا على إساءة المهجو ولا صدق الشاعر فيما رماه به، فما كل مذموم بذميم، وقد يهجى الإنسان بهتانا وظلما أو عبثا أو ارهابا.
قال المتوكل لأبي العيناء: كم تمدح الناس وتذمهم، قال: ما أحسنوا وأساءوا. وقد رضي الله تعالى على عبد من عبيده فمدحه، فقال: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ
«٣» ، وغضب على آخر، فقال: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ١٢ عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ ١٣
«٤» قيل الزنيم: الملصق بالقوم وليس منهم.
وقال دعبل في المأمون بعد البيعة له وقتل الأمين.
إنّي من القوم الذين همو همو ... قتلوا أخاك وشرفّوك بمقعد
شادوا لذكرك بعد طول خموله ... واستنقذوك من الحضيض الأوهد «٥»
فقال المأمون: ما أبهته «٦» ليت شعري متى كنت خاملا، وفي حجر الخلافة ربيت وبدرّهما غذيت.
ولما قتل جعفر بن يحيى بكى عليه أبو نواس، فقيل له:
أتبكي على جعفر وأنت هجوته؟ فقال: كان ذلك لركوب الهوى، وقد بلغه والله أني قلت:
ولست وإن أطنبت «٧» في وصف جعفر ... بأول إنسان خري في ثيابه
فكتب: يدفع إليه عشرة آلاف درهم يغسل بها ثيابه.
ومن العبث بالهجو ما روي أن الحطيئة همّ بهجاء، فلم يجد من يستحقه فقال:
أبت شفتاي اليوم إلّا تكلّما ... بسوء فلا أدري لمن أنا قائله
أرى بي وجها قبّح الله خلقه ... فقبّح من وجه وقبّح حامله
وعبث بأمه فقال:
تنحّي فاجلسي عنّا بعيدا ... أراح الله منك العالمينا
أغربالا إذا استودعت سرّا ... وكانونا على المتحدّثينا
حياتك ما علمت حياة سوء ... وموتك قد يسر الصالحينا
وقال رجل: ما أبالي أهجيت أم مدحت، فقال له الأحنف: أرحت نفسك من تعب الكرام. وأنا أقول: إنما يخشى من الهجو من يخاف على عرضه وأما من لا يخاف