أضرّ بها حر الهجير فلم تجد ... لغلّتها من بارد الماء شافيا
إذا أبعدت عن خشفها انعطفت له ... فألفته ملهوف الجوانح طاويا «١»
بأوجع مني يوم شدوّا حمولهم ... ونادى مناد البين أن لا تلاقيا
وقال عبد العزيز الماجشون وهو من فقهاء المدينة: قال لي المهدي يا ماجشون ما قلت حين فارقت أحبابك؟ قال:
قلت يا أمير المؤمنين:
لله باك على أحبابه جزعا ... قد كنت أحذر هذا قبل أن يقعا
ما كان والله شؤم الدهر يتركني ... حتى يجرّعني من بعدهم جرعا «٢»
إن الزمان رأى إلف السرور لنا ... فدبّ بالبين فيما بيننا وسعى
فليصنع الدهر بي ما شاء مجتهدا ... فلا زيادة شيء فوق ما صنعا
فقال: والله لأعيننك فأعطاه عشرة آلاف دينار.
وقال آخر:
وقفت يوم النوى منهم على بعد ... ولم أودّعهم وجدا وإشفاقا
إني خشيت على الأظعان من نفسي ... ومن دموعي إحراقا وإغراقا
وقال عمر بن أحمد:
أنى الرحيل فحين جدّ ترحلت ... مهج النفوس له عن الاجساد «٣»
من لم يبت والبين يصدع قلبه ... لم يدر كيف تفتّت الاكباد
وحكى بعضهم قال: دخلنا إلى دير هرقل فنظرنا إلى مجنون في شباك وهو ينشد شعرا فقلنا له: أحسنت، فأومأ بيده إلى حجر يرمينا به وقال: ألمثلي يقال أحسنت، ففررنا منه فقال: أقسمت عليكم إلا ما رجعتم حتى أنشدكم فإن أحسنت فقولوا أحسنت وان أنا أسأت فقولوا أسأت. فرجعنا إليه فأنشد يقول:
لما أناخوا قبيل الصبح عيسهمو ... وحمّلوها وسارت بالدمّى الإبل «٤»
وقلبّت بخلاف السجف ناظرها ... يرنو إلي ودمع العين ينهمل «٥»
وودعت ببنان زانه عنم ... ناديت لا حملت رجلاك يا جمل «٦»
يا حادي العيس عرّج كي أودعهم ... يا حادي العيس في ترحالك الأجل
إني على العهد لم أنقص مودّتهم ... يا ليت شعري لطول البعد ما فعلوا
فقلنا له: ماتوا. فقال: والله وأنا أموت! ثم شهق شهقة فإذا هو ميت رحمه تعالى.
وقال آخر:
لما علمت بأن القوم قد رحلوا ... وراهب الدير بالناقوس مشتغل
شكبت عشري على رأسي وقلت له ... يا راهب الدير هل مرّت بك الإبل
فحنّ لي وبكى ورقّ لي ورثى «٧» ... وقال لي يا فتى ضاقت بك الحيل
إنّ الخيام التي قد جئت تطلبهم ... بالأمس كانوا هنا والآن قد رحلوا
وقال الشيخ الأكبر سيدي محي الدين بن عربي رحمه الله تعالى:
ما رحّلوا يوم ساروا البزّل العيسا ... إلا وقد حملوا فيها الطواويسا «٨»
من كلّ فاتكة الألحاظ مالكة ... تخالها فوق عرش الدّر بلقيسا
إذا تمشت على صرح الزّجاج ترى ... شمسا على فلك في حجر إدريسا
أسقفة من بنات الروم عاطلة ... ترى عليها من الأنوار ناموسا «٩»