قالوا: وما اقتناه؟ قال: لا يترك له مالا ولا ولدا» .
ومر موسى عليه الصلاة والسلام برجل كان يعرفه مطيعا لله عز وجل قد مزقت السباع لحمه وأضلاعه وكبده ملقاة على الأرض، فوقف متعجبا، فقال: أي رب عبدك ابتليته بما أرى، فأوحى الله تعالى إليه أنه سألني درجة لم يبلغها بعمله، فأحببت أن أبتليه لأبلغه تلك الدرجة.
وكان عروة بن الزبير صبورا حين ابتلي. حكي أنه خرج إلى الوليد بن يزيد فوطىء عظما، فما بلغ إلى دمشق حتى بلغ به كل مذهب، فجمع له الوليد الاطباء، فأجمع رأيهم على قطع رجله، فقالوا له: اشرب مرقّدا، فقال: ما أحب أن أغفل عن ذكر الله تعالى، فأحمى له المنشار، وقطعت رجله، فقال ضعوها بين يدي ولم يتوجع، ثم قال: لئن كنت ابتليت في عضو فقد عوفيت في أعضاء. فبينما هو كذلك إذ أتاه خبر ولده أنه أطلع من سطح على دواب الوليد، فسقط بينها فمات. فقال: الحمد لله على كل حال لئن أخذت واحدا لقد أبقيت جماعة. وقدم على الوليد وفد من عبس فيهم شيخ ضرير، فسأله عن حاله وسبب ذهاب بصره فقال: خرجت مع رفقة مسافرين ومعي مالي وعيالي، ولا أعلم عبسيا يزيد ماله على مالي، فعرسنا في بطن واد، فطرقنا سيل، فذهب ما كان لي من أهل ومال وولد غير صبي صغير وبعير، فشرد البعير، فوضعت الصغير على الأرض ومضيت لآخذ البعير، فسمعت صيحة الصغير، فرجعت إليه فإذا رأس الذئب في بطنه وهو يأكل فيه، فرجعت إلى البعير، فحطم وجهي برجليه، فذهبت عيناي، فأصبحت بلا عينين ولا ولد ولا مال ولا أهل، فقال الوليد: إذهبوا إلى عروة ليعلم أن في الدنيا من هو أعظم مصيبة منه.
وقيل: الحوادث الممضة «١» مكسبة لحظوظ جليلة، أما ثواب مدخر أو تطهير من ذنب أو تنبيه من غفلة أو تعريف لقدر النعمة.
قال البحتري: يسلّي محمد بن يوسف على حبسه:
وما هذه الأيام إلّا منازل ... فمن منزل رحب إلى منزل ضنك «٢»
وقد دهمتك الحادثات وإنما ... صفا الذهب الابريز قبلك بالسّبك
أما في نبي الله يوسف اسوة ... لمثلك محبوس عن الظلم والإفك «٣»
أقام جميل الصبر في السجن برهة ... فآل به الصبر الجميل إلى الملك
وقال علي بن الجهم لما حبسه المتوكل:
قالوا حبست فقلت ليس بضائري ... حبسي وأي مهند لا يغمد
والشمس لولا أنها محجوبة ... عن ناظريك لما أضاء الفرقد
والنار في أحجارها مخبوءة ... لا تصطلى إن لم تثرها الأزند
والحبس ما لم تغشه لدنيّة ... شنعاء نعم المنزل المتودّد
بيت يجدد للكريم كرامة ... ويزار فيه ولا يزور ويحمد
لو لم يكن في الحبس إلّا أنّه ... لا تستذلّك بالحجاب الأعبد
غرّ الليالي باديات عوّد ... والمال عارية يعار وينفد
ولكل حيّ معقب ولربما ... أجلى لك المكروه عمّا يحمد
لا يؤيسنك من تفرّج نكبة ... خطب رماك به الزمان الأنكد
كم من عليل قد تخطّاه الردى ... فنجا ومات طبيبه والعوّد «٤»
صبرا فإن اليوم يعقبه غد ... ويد الخلافة لا تطاولها يد
قال: وأنشد إسحاق الموصلي في إبراهيم بن المهدي حين حبس:
هي المقادير تجري في أعنّتها «٥» ... فاصبر فليس لها صبر على حال «٦»