التحفظ أيس عدوه من كيده له وقطع عنه أطماع الماكرين به. وقالوا: اليقظة حارس لا ينام وحافظ لا ينسام، وحاكم لا يرتشي، فمن تدرع بها أمن من الاختلال والغدر والجور والكيد والمكر.
وقيل: إن كسرى أنو شروان كان أشد الناس تطلعا في خفايا الأمور، وأعظم خلق الله تعالى في زمانه تفحصا وبحثا عن أسرار الصدور، وكان يبث العيون على الرعايا والجواسيس في البلاد ليقف على حقائق الأحوال، ويطلع على غوامض القضايا، فيعلم المفسد فيقابله بالتأديب، والمصلح فيجازيه الإحسان، ويقول: متى غفل الملك عن تعرف ذلك، فليس له من الملك إلا اسمه، وسقطت من القلوب هيبته.
وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: خرج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ليلة من الليالي يطوف يتفقد أحوال المسلمين، فرأى بيتا من الشعر مضروبا، لم يكن قد رآه بالأمس، فدنا منه، فسمع فيه أنين امرأة، ورأى رجلا قاعدا، فدنا منه وقال له: من الرجل؟
فقال له: رجل من البادية قدمت إلى أمير المؤمنين لأصيب من فضله، قال: فما هذا الأنين؟ قال: امرأة تتمخض قد أخذها الطلق قال: فهل عندها أحد؟ قال: لا، فانطلق عمر فجاء إلى منزله، فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب بنت فاطمة الزهراء رضي الله عنهما: هل لك في أجر قد ساقه الله تعالى لك؟ قالت: وما هو؟ قال:
امرأة تتمخض ليس عندها أحد. قالت: إن شئت، قال:
فخذي معك ما يصلح للمرأة من الخرق والدهن، وائتني بقدر وشحم وحبوب. فجاءت به، فحمل القدر، ومشت خلفه حتى أتى البيت، فقال: ادخلي إلى المرأة، ثم قال للرجل: أوقد لي نارا، ففعل، فجعل عمر ينفخ النار ويضرمها والدخان يخرج من خلال لحيته حتى أنضجها وولدت المرأة، فقالت أم كلثوم رضي الله عنها: بشّر صاحبك يا أمير المؤمنين بغلام، فلما سمعها الرجل تقول يا أمير المؤمنين ارتاع وخجل، وقال: واخجلتاه منك يا أمير المؤمنين أهكذا تفعل بنفسك؟ قال: يا أخا العرب:
من ولي شيئا من أمور المسلمين ينبغي له أن يتطلع على صغير أمورهم وكبيره، فإنه عنها مسؤول، ومتى غفل عنها خسر الدنيا والآخرة. ثم قام عمر رضي الله عنه، وأخذ القدر من على النار وحملها إلى باب البيت، وأخذتها أم كلثوم، وأطعمت المرأة، فلما استقرت وسكنت طلعت أم كلثوم، فقال عمر رضي الله عنه للرجل: قم إلى بيتك وكل ما في البرمة، وفي غد ائت إلينا، فلما أصبح جاءه، فجهزه بما أغناه به وانصرف.
وكان رضي الله عنه من شدة حرصه على تعرف الأحوال وإقامة قسطاس العدل وإزاحة أسباب الفساد وإصلاح الأمة يعس «١» بنفسه، ويباشر أمور الرعية سرا في كثير من الليالي، حتى أنه في ليلة مظلمة خرج بنفسه فرأى في بعض البيوت ضوء سراج، وسمع حديثا، فوقف على الباب يتجسس، فرأى عبدا أسود قدامه إناء فيه مزر وهو يشرب ومعه جماعة، فهمّ بالدخول من الباب، فلم يقدر من تحصين البيت، فتسور على السطح ونزل إليهم من الدرجة، ومعه الدرة، فلما رأوه قاموا، وفتحوا الباب وانهزموا فأمسك الأسود، فقال له يا أمير المؤمنين: قد أخطأت وإني تائب، فاقبل توبتي، فقال: أريد أن أضربك على خطيئتك. فقال يا أمير المؤمنين: إن كنت قد أخطأت في واحدة، فأنت قد أخطأت في ثلاث: فإن الله تعالى قال: وَلا تَجَسَّسُوا
«٢» وأنت تجسست، وقال تعالى:
وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها
«٣» وأنت أتيت من السطح، وقال تعالى: لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها
«٤» ، وأنت دخلت وما سلمت، فهب هذه لهذه، وأنا تائب إلى الله تعالى على يدك أن لا أعود، فاستتابه، فاستحسن كلامه.
وله رضي الله تعالى عنه وقائع كثيرة مثل هذه.
وكان معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه قد سلك طريق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في ذلك، وكان زياد بن أبيه يسلك مسلك معاوية في ذلك حتى نقل عنه أن رجلا كلمه في حاجة له وجعل يتعرف إليه ويظن أن زيادا لا يعرفه، فقال: أنا فلان ابن فلان فتبسم زياد وقال له: أتتعرف إليّ، وأنا أعرف بك منك بنفسك؟.
والله إني لأعرفك وأعرف أباك وأعرف أمك، وأعرف جدك وجدتك، وأعرف هذه البردة التي عليك وهي لفلان، وقد أعارك إياها. فبهت الرجل وارتعد، حتى كاد يغشى عليه.
ثم جاء بعدهم من اقتدى بهم وهو: عبد الملك بن مروان، والحجاج، ولم يسلك بعدهما ذلك الطريق،