واقتفى آثار ذلك الفريق إلا المنصور ثاني خلفاء بني العباس ولي الخلافة بعد أخيه السفاح، وهي في غاية الاضطراب فنصب العيون، وأقام المتطلعين، وبث في البلاد والنواحي من يكشف له حقائق الأمور والرعايا، فاستقامت له الأمور، ودانت له الجهات ولقد ابتلي في خلافته بأقوام نازعوه، وأرادوا خلعه، وتمردوا عليه، وتكاثروا، فلولا أن الله تعالى أعانه بتيقظه وتبصره ما ثبت له في الخلافة قدم، ولا رفع له مع قصد أولئك القاصدين علم، لكنه بث العيون فعرف من انطوى على خلافه فعالجه باتلافه، واطلع على عزائم المعاندين فقطع رؤوس عنادهم بأسيافه، وكان بكمال يقظته يتلقى المحذور بدفعه دون رفعه، ويعاجل المخوف بتفريق شمله قبل جمعه، فذلت له الرقاب ولانت لخلافته الصعاب، وقرر قواعدها وأحكمها بأوثق الأسباب.
فمن آثار يقظته وفطنته ما نقله عنه عقبة الأزدي قال:
دخلت مع الجند على المنصور فارتابني، فلما خرج الجند أدناني وقال لي: من أنت؟ فقلت: رجل من الأزد، وأنا من جند أمير المؤمنين قدمت الآن مع عمر بن حفص.
فقال: إني لأرى لك هيبة وفيك نجابة، وإني أريدك لأمر وأنا به معنّى، فإن كفيتنيه رفعتك، فقلت: إني لأرجو أن أصدق ظن أمير المؤمنين. فقال: أخف نفسك واحضر في يوم كذا. قال: فغبت عنه إلى ذلك اليوم، وحضرت، فلم يترك عنده أحدا، ثم قال لي: اعلم أن بني عمنا هؤلاء قد أبوا إلا كيد ملكنا واغتياله ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا يكاتبونهم ويرسلون إليهم بصدقات أموالهم وألطاف بلادهم، فخذ معك عينا «١» من عندي، وألطافا «٢» ، وكتبا، واذهب حتى تأتي عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فاقدم عليه متخشعا، والكتب على ألسنة أهل تلك القرية والألطاف من عندهم إليه، فإذا رآك، فإنه سيردك ويقول لا أعرف هؤلاء القوم، فاصبر عليه وعاوده وقل له: قد سيروني سرا، وسيروا معي ألطافا وعينا، وكلما جبهك، وأنكر أصبر عليه، وعاوده، واكشف باطن أمره، قال عقبة: فأخذت كتبه والعين والألطاف، وتوجهت إلى جهة الحجاز حتى قدمت على عبد الله بن الحسن، فلقيته بالكتب، فأنكرها ونهرني وقال: ما أعرف هؤلاء القوم قال عقبة: فلم أنصرف، وعاودته القول وذكرت له اسم القرية وأسماء أولئك القوم، وأن معي ألطافا، وعينا، فأنس بي، وأخذ الكتب وما كان معي. قال عقبة: فتركته ذلك اليوم، ثم سألته الجواب، فقال: أما كتاب، فلا أكتب إلى أحد، ولكن أنت كتابي إليهم، فاقرئهم السلام وأخبرهم أن ابني محمدا وإبراهيم خارجان لهذا الأمر وقت كذا وكذا، قال عقبة: فخرجت من عنده، وسرت حتى قدمت على المنصور فأخبرته بذلك، فقال لي المنصور: إني أريد الحج، فإذا صرت بمكان كذا وكذا وتلقاني بنو الحسن وفيهم عبد الله، فإني أعظمه وأكرمه وأرفعه، وأحضر الطعام، فإذا فرغ من أكله، ونظرت إليه، فتمثل بين يدي، وقف قدامه، فإنه سيصرف وجهه عنك، فدر حتى تقف من ورائه واغمز ظهره بإبهام رجلك حتى يملأ عينيه منك، ثم انصرف عنه، وإياك أن يراك وهو يأكل. ثم خرج المنصور يريد الحج حتى إذا قارب البلاد تلقاه بنو الحسن، فأجلس عبد الله إلى جانبه وحادثه، فطلب الطعام للغداء فأكلوا معه، فلما فرغوا أمر برفعه، فرفع، ثم أقبل على عبد الله بن الحسن وقال: يا أبا محمد قد علمت أن مما أعطيتني من العهود والمواثيق أنك لا تريدني بسوء ولا تكيد لي سلطانا، قال: فأنا على ذلك يا أمير المؤمنين.
قال عقبة: فلحظني المنصور بعينه، فقمت حتى وقفت بين يدي عبد الله بن الحسن، فأعرض عني، فدرت من خلفه وغمزت ظهره بإبهام رجلي، فرفع رأسه وملأ عينيه مني ثم وثب حتى جثى بين يدي المنصور وقال: أقلني يا أمير المؤمنين أقالك الله. فقال له المنصور: لا أقالني الله إن لم أقتلك، وأمر بحبسه وجعل يتطلب ولديه محمد وإبراهيم ويستعلم أخبارهما. قال علي الهاشمي صاحب غدائه، دعاني المنصور يوما فإذا بين يديه جارية صفراء، وقد دعا لها بأنواع العذاب وهو يقول لها: ويلك إصدقيني، فو الله ما أريد إلا الألفة، ولئن صدقتيني لأصلن رحمه ولأتبعن البر إليه. وإذا هو يسألها عن محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب. وهي تقول: لا أعرف له مكانا، فأمر بتعذيبها، فلما بلغ العذاب منها أغمي عليها، فقال: كفوا عنها، فلما رأى أن نفسها كادت تتلف قال: ما دواء مثلها؟ قالوا: شم الطيب وصب الماء البارد على وجهها وأن تسقى السويق، ففعلوا بها ذلك، وعالج المنصور بعضه بيده، فلما أفاقت سألها عنه، فقالت:
لا أعلم، فلما رأى إصرارها على الجحود قال لها:
أتعرفين فلانة الحجامة، فلما سمعت منه ذلك تغيّر وجهها وقالت: نعم يا أمير المؤمنين تلك من بني سليم قال: