فقالوا له: نريد قرى «١» أصلحك الله. قال: وما قراكم؟
قالوا: أكل وشرب وسماع. قال: أما الأكل والشرب فمباحان لكم، وأما السماع فقد عرفتم شدة غيرة أمير المؤمنين ونهيه عنه إلا ما كان في مجلسه. قالوا: لا حاجة لنا بطعامك وشرابك إن لم تسمعنا. قال: فاختاروا صوتا واحدا أغنيكموه. قالوا: غننا صوت كذا، فرفع صوته يغني بهذه الأبيات:
محجوبة سمعت صوتي فأرّقها ... من آخر الليل لما نبّه السّحر
لم يحجب الصوت أحراس ولا غلق ... فدمعها لطروق الصوت منحدر
لو مكنّت لمشت نحوي على قدم ... تكاد من لينها في المشي تنفطر «٢»
قال: فسمعت الذلفاء صوت سنان، فخرجت إلى صحن الفسطاط تسمع، فجعلت لا تسمع شيئا من حسن خلق ولطافة قد إلا رأت ذلك كله في نفسها وهيئتها، فحرك ذلك ساكنا من قلبها، فهملت عيناها، وعلا نحيبها، فانتبه سليمان، فلم يجدها معه، فخرج إلى صحن الفسطاط فرآها على تلك الحال، فقال: ما هذا يا ذلفاء؟
فقالت:
ألا ربّ صوت رائع من مشوّه ... قبيح المحيا واضع الأب والجدّ «٣»
يروعك منه صوته ولعله ... إلى أمة يعزى معا وإلى عبد
فقال سليمان: دعيني من هذا، فو الله لقد خامر قلبك منه ما خامر «٤» ، ثم قال: يا غلام عليّ بسنان، فدعت الذلفاء خادما لها، فقالت له إن سبقت رسول أمير المؤمنين إلى سنان، فحذرته، فلك عشرة آلاف درهم، وأنت حر لوجه الله تعالى، فخرج الرسولان، فسبق رسول أمير المؤمنين سليمان، فلما أتى به قال يا سنان: ألم أنهك عن مثل هذا؟
قال يا أمير المؤمنين حملني على ذلك حلمك، وأنا عبد أمير المؤمنين، وغرس نعمته فإن رأى أمير المؤمنين أن يعفو عن عبده، فليفعل. قال: قد عفوت عنك ولكن أما علمت أن الفرس إذا صهل ودقت له الحجرة «٥» ، وأن الفحل إذا هدر ضبعت «٦» له الناقة، وأن الرجل إذا تغنى أصغت له المرأة. إياك إياك والعود إلى ما كان منك، فيطول غمك.
وحكي أن الرشيد فصد يوما فأرسلت إليه بعض حظاياه قدحا فيه شراب مع وصيفة لها حسنة الوجه جميلة الطلعة بديعة المحيا، وغطته بمنديل مكتوب عليه هذه الأبيات:
فصدت عرقا تبتغي صحّة ... ألبسك الله به العافية
فاشرب بهذا الكأس يا سيدي ... واهنأ به من كفّ ذي الجارية
واجعل لمن أنفذه خلوة ... تحظى بها في الليلة الآتية
قال: فنظر الرشيد إلى الوصيفة التي جاءت بالقدح فاستحسنها، فافتضها، ثم أرسلها فعلمت مولاتها بذلك، فكتبت إليه رقعة تقول فيها هذه الأبيات:
بعثت الرسول فأبطا قليلا ... على الرغم منّي فصبرا جميلا
وكنت الخليل وكان الرسول ... فصرت الرسول وصار الخليلا
كذا من يوجّه في حاجة ... إلى من يحبّ رسولا جميلا
قال فاستحسن الرشيد ذلك منها وأرسل إليها: أنا عندك الليلة.
وأهدى داود بن روح المهلبي إلى المهدي جارية، فحظيت عنده، فواعدته المبيت عنده ليلة، فمنعها الحيض، فكتب إليها يقول:
لأهجرنّ حبيبا خان موعده ... وكان منه لصفو العيش تكدير
فأرسلت إليه تجيبه:
لا تهجرنّ حبيبا خان موعده ... ولا تذمنّ وعدا فيه تأخير
ما كان حبسي إلا من حدوث أذى ... لا يستطاع له بالقول تفسير