وقال محمد بن مروان يصف جارية له:
أمست تباع ولو تباع بوزنها ... درّا بكى أسفا عليها البائع
وكان للمأمون جويرية «١» من أحسن الناس وأسبقهم إلى كل نادرة فحظيت عنده، فحسدها الجواري وقلن لا حسب لها، فنقشت على خاتمها حسبي حسني، فازداد بها المأمون عجبا، فسمتها الجواري، فماتت، فجزع عليها المأمون جزعا شديدا وقال:
اختلست ريحانتي من يدي ... أبكي عليها آخر الأبد
كانت هي الأنس إذا استوحشت ... نفسي من الأقرب والأبعد
وروضة كان بها مرتعي ... ومنهلا كان بها موردي
كانت يدي كان بها قوتي ... فاختلس الدهر يدي من يدي
وللمتوكل في قينة:
أمازحها فتغضب ثم ترضى ... فكلّ فعالها حسن جميل
فإن غضبت فأحسن ذي دلال ... وإن رضيت فليس لها عديل «٢»
وحدّث أبو عبد الله بن عبد البر قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم عن الهيثم بن عدي قال: كان في المدينة رجل من بني هاشم وكان له قينتان يقال لإحداهما رشا وللأخرى جؤذر وكان بالمدينة رجل مضحك لا يكاد يغيب عن مجلس المستظرفين، فأرسل الهاشمي إليه ذات يوم ليسخر به، فلما أتاه قال له: أصلحك الله إنك لفي لذتك ولا لذة لي قال: وما لذتك؟ قال: تحضر لي نبيذا، فإنه لا يطيب لي عيش إلا به، فأمر الهاشمي بإحضار نبيذ وأمر أن يطرح فيه سكر العشر «٣» ، فلما شربه المضحك تحرك عليه بطنه فتناوم الهاشمي وغمز جاريتيه عليه، فلما ضاق عليه الأمر واضطر إلى التبرز قال في نفسه: ما أظن هاتين المغنيتين إلا يمانيتين وأهل اليمن يسمون الكنف بالمراحيض، فقال لهما: يا حبيبتي أين المرحاض؟ فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول سيدنا؟ قالت: يقول غنياني
رحضت فؤادي فخلّيتني ... أهيم من الحب في كل وادي «٤»
فاندفعتا تغنيانه، فقال في نفسه: والله ما أظنهما فهمتا عني، وما أظنهما إلا مكيتين وأهل مكة يسمونها المخارج، فقال: يا حبيبتي أين المخرج؟ فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول سيدنا؟ قالت يقول غنياني:
خرجت لها من بطنه مكّة بعدما ... أقام المنادي بالعشي فأعتما
فاندفعتا تغنيانه، فقال في نفسه: لم يفهما عني، وما أظنهما إلا شاميتين وأهل الشام يسمونها المذاهب، فقال:
يا حبيبتي أين المذهب؟ فقالت إحداهما لصاحبتها:
ما يقول حبيبنا؟ قالت: يقول غنياني
ذهبت من الهجران في كل مذهب ... ولم يك حقا كل هذا كل هذا التّجنب
فغنتاه الصوت، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم لم يفهما عني، وما أظن القحبتين إلا مدنيتين، وأهل المدينة يسمونها بيت الخلاء، فقال: يا حبيبتي أين بيت الخلاء؟ فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول سيدنا؟
قالت: يقول غنياني
خلا علي بقاع الأرض إذ ظعنوا ... من بطن مكة واسترعاني الحزن
قال فغنتاه، فقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون ما أظن الفاسقتين إلا بصريتين، وأهل البصرة يسمونها الحشوش، فقال: يا حبيبتي أين الحشوش؟ فقالت إحداهما لصاحبتها: ما يقول سيدنا؟ قالت: يقول غنياني
أوحشوني وعزّ صبري فيهم ... ما احتيالي وما يكون فعالي
قال فاندفعتا تغنيانه فقال: ما أراهما إلا كوفيتين، وأهل الكوفة يسمونها الكنف، فقال لهما: يا حبيبتي أين الكنيف؟ فقالت إحداهما لصاحبتها: يعيش سيدنا ما رأيت أكثر اقتراحا من هذا الرجل. قالت: ما يقول؟ قالت:
يسأل أن تغني له
تكنّفني الهوى طفلا ... فشيّبني وما اكتهلا