قال: فكيف رأيتيه في عشقه؟ قالت: كان كما قال الشاعر:
لا والذي تسجد الجباه له ... مالي بما تحت ذيلها خبر
ولا بفيها ولا هممت بها ... ما كان إلّا الحديث والنظر
وقد قدمت هذين البيتين في الجزء الأول، فيما جاء في الكتابة على سبيل الرمز وعن أبي سهل الساعدي قال: دخلت على جميل وبوجهه آثار الموت، فقال لي: يا أبا سهل، إن رجلا يلقى الله ولم يسفك دما، ولم يشرب خمرا، ولم يأت فاحشة أفترجو له الجنة؟ قلت: أي والله، فمن هو؟ قال: إني لأرجو أن أكون ذلك، فذكرت له بثينة، فقال: إني لفي آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم إن كنت حدثت نفسي بريبة قط.
وعن عبد الله بن عبد المطلب أبي النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعته بغي إلى نفسها، وبذلت له مالا، وكانت تتكهن وتسمع بإتيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت جميلة، فأرادت أن تخدع عبد الله رجاء أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم منها للنور الذي رأته بين عينيه، فأبى وقال:
أمّا الحرام فالحمام دونه ... والحلّ لا حل فنستبينه «١»
فكيف بالأمر الذي تبغينه ... يحمي الكريم عرضه ودينه
وقال آخر:
وأحور مخضوب البنان محجّب ... دعاني فلم أعرف إلى ما دعا وجها
بخلت بنفسي عن مقام يشينها ... ولست مريدا ذاك طوعا ولا كرها «٢»
وراود شاب ليلى الأخيلية عن نفسها فاشمأزت، وقالت:
وذي حاجة قلنا له لا تبح بها ... فليس إليها ما حييت سبيل
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحب وخليل
وقال ابن ميادة:
موانع لا يعطين حبّة خردل ... وهنّ دوان في الحديث أوانس «٣»
ويكرهن أن يسمعن في اللهو ريبة ... كما كرهت صوت اللجام الشوامس «٤»
وقال آخر:
حور حرائر ما هممن بريبة ... كظباء مكّة صيدهنّ حرام
يحسبن من لين الكلام فواسقا ... ويصدّهن عن الخنى الإسلام «٥»
وكان الأصمعي يستحسن بيتي العباس بن الأحنف:
أتأذنون لصبّ في زيارتكم ... فعندكم شهوات السمع والبصر
لا يظهر الشوق إن طال الجلوس به ... عفّ الضمير ولكن فاسق النظر
واختفى إبراهيم بن المهدي في هربه من المأمون عند عمته زينب بنت أبي جعفر، فوكلت بخدمته جارية لها اسمها ملك، وكانت واحدة زمانها في الحسن والأدب طلبت منها بخمسمائة ألف درهم، فهويها إبراهيم، وكره أن يراودها عن نفسها، فغنى يوما وهي قائمة على رأسه:
يا غزالا لي إليه ... شافع من مقلتيه
أنا ضيف وجزاء الم ... ضيف إحسان إليه
ففهمت الجارية ما أراد، فحكت ذلك لمولاتها فقالت:
إذهبي إليه، فأعلميه أني وهبتك له، فعادت إليه، فلما رآها أعاد البيتين، فأكبت عليه، فقال لها: كفى، فلست بخائن، فقالت: قد وهبتني لك مولاتي وأنا الرسول، فقال: أما الآن فنعم.
وأنشد المبرد:
ما إن دعاني الهوى لفاحشة ... إلّا نهاني الحياء والكرم
فلا إلى فاحش مددت يدي ... ولا مشت بي لزلة قدم