المنارة التي وسط الخيف. وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى ما لا يبكيه عند ذكر الجنة والنار، فقيل له في ذلك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا العبد منه فما بعده أيسر منه» .
وعن معاذ بن رفاعة الزرقي قال: أخبرني رجل من رجال قومي أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جوف الليل معتجرا بعمامة من استبرق، فقال: يا محمد من هذا الميت الذي فتحت له أبواب السماء واهتز له العرش، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر ثوبه مبادرا إلى سعد بن معاذ رضي الله عنه فوجده قبض.
وقال الحسن رضي الله عنه: ما من يوم إلا وملك الموت يتصفح وجوه الناس خمس مرات، فمن رآه على لهو ولعب أو معصية أو ضاحكا حرك رأسه وقال له:
مسكين هذا العبد غافل عما يراد به، ثم يقول له: اعمل ما شئت، فإن لي فيك غمزة أقطع بها وتينك «١» . وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لرجاء بن حيوه: يا رجاء إذا وضعت في لحدي، فاكشف الثوب عن وجهي فإن رأيت خيرا فاحمد الله وإن غير ذلك فاعلم أن عمر قد هلك. قال رجاء: فلما دفناه كشفت عن وجهه، فرأيت نورا ساطعا، فحمدت الله تعالى أن قد صار إلى خير.
وقال أيضا: دخلت على عمر بن عبد العزيز وهو محتضر فقال: يا رجاء إني أرى وجوها كراما ليست بوجوه إنس ولا جان، وهو يقلب طرفه يمينا وشمالا، ثم رفع يده فقال: اللهم أنت ربي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، فإن غفرت فقد مننت وإن عاقبت فما ظلمت، إلا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك وأن محمدا عبدك ورسولك المصطفى ونبيك المرتضى، بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمة، فعليه السلام والرحمة، ثم قضى نحبه رحمة الله.
وعن أسماء بنت عميس قالت: كنت عند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعدما ضربه ابن ملجم إذ شهق شهقة بعد أن أغمي عليه، ثم أفاق وقال: مرحبا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء، فقيل له ما ترى؟ قال: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أخي جعفر وعمي حمزة وأبواب السماء مفتحة والملائكة ينزلون علي يبشرونني بالجنة، وهذه فاطمة قد أحاط بها وصائفها من الحور العين، وهذه منازلي، لمثل هذا فليعمل العاملون.
ولما احتضر عبد الملك بن مروان قال لابنه الوليد: إذا أنا متّ إياك أن تجلس وتعصر عينيك كالمرأة الوكعاء، لكن ائترز وشمر والبس جلد النمر وضعني في حفرتي وخلّني وشأني، وعليك شأنك. وادع الناس إلى بيعتك فمن قال برأسه هكذا «٢» ، فقل له بسيفك هكذا «٣» ، ثم بعث إلى محمد وخالد ابني يزيد بن معاوية، فقال: هل عندكما ندامة في بيعه الوليد؟ فقالوا: لا نعرف أحدا أحق منه بالخلافة، فقال: أما إنكما لو قلتما غير هذا لضربت الذي فيه أعينكما، ثم رفع كنار فراشه فإذا تحته سيف مسلول تحت يمينه، كل هذا وروحه تتردد في حنجرته، وهو يقول: الحمد لله الذي لا يبالي أصغيرا أخذ أم كبيرا.
لا إله إلا الله محمد رسول الله. ثم بعد ساعة نفذت روحه فدخل عليه الوليد ومعه بناته يبكون، فتمثل بقول الشاعر:
ومستخبر عنا يريد بنا الرّدى ... ومستخبرات والعيون سواكن
وقال محمد بن هارون:
كأنّي بإخواني على جنب حفرتي ... يهيلون فوقي «٤» والعيون دما تجري
فيا أيها المذري عليّ دموعه ... ستعرض في يومين عني وعن ذكري «٥»
عفا الله عنّي أنزل القبر ثاويا ... أزار فلا أدري وأجفى فلا أدري
وكان يزيد الرقاشي يقول: من كان الموت موعده والقبر بيته والثرى مسكنه والدود أنيسه وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر، كيف تكون حالته، ثم يبكي حتى يغشى عليه.
فيجب على العاقل أن يحاسب نفسه بنفسه على ما فرط من عمره، ويستعد لعاقبة أمره بصالح العمل ولا يغتر بالأمل، فإن من عاش مات ومن مات فات، وكل ما هو آت آت.
نسأل الله أن يلهمنا رشدنا ويوفقنا لاتباع أوامره واجتناب