يصف لي شيء من الحلال، فسألت بعض المشايخ فقال:
إن أردت الحلال، فعليك بطرسوس. فإن المباحات بها والعمل فيها كثير، فانصرفت إليها. قال: فبينا أنا قاعد على باب البحر إذ جاءني رجل فاكتراني أنظر له بستانا، فتوجهت معه، فأقمت في البستان أياما كثيرة، فإذا خادم له قد أقبل ومعه أصحاب له ولو علمت أن البستان بخادم ما نظرته، فقعد في مجلسه ثم قال: يا ناظورنا، فأجبته.
قال: اذهب فأتنا بأكبر رمان تقدر عليه وأطيبه. فأتيته برمان، فكسر الخادم واحدة، فوجدها حامضة، فقال:
يا ناظورنا أنت منذ كذا وكذا في بستاننا تأكل من فاكهتنا ورماننا ولا تعرف الحلو من الحامض؟ فقلت: والله ما أكلت من فاكهتكم شيئا، ولا أعرف الحلو من الحامض، قال: فغمز الخادم أصحابه، وقال: ألا تعجبون من هذا، ثم قال لي: لو كنت إبراهيم بن أدهم ما كنت بهذه الصفة، قال: ثم تحدث الناس بذلك، وجاءوا إلى البستان، فلما رأيت كثرة الناس اختفيت والناس داخلون، وأنا هارب منهم. وكان يأكل من كسب يده، وكان يحصد ويحفظ البساتين ويعمل في الطين، فبينما هو يوما يحرس كرما إذ مر به جندي فقال: أعطنا من هذا العنب، فقال له:
إن صاحبه لم يأذن لي، فضربه بالسوط فطأطأ رأسه وقال:
اضرب رأسا طالما عصى الله يا سيدي الجندي، فاستحى الرجل وتركه ومضى.
وروي أن داود عليه الصلاة والسلام بينما هو في الجبال إذ مر على غار فيه رجل عظيم الخلقة من بني آدم ملقى على ظهره وعند رأسه حجر محفور مكتوب فيه: أنا دوسم الملك، تملكت ألف عام وفتحت ألف مدينة. وهزمت ألف جيش، وافتضيت ألف بكر من بنات الملوك ثم صرت إلى ما ترى التراب فراشي والحجر وسادي فمن رآني فلا تغره الدنيا كما غرتني.
وقال وهب بن منبه: خرج عيسى عليه الصلاة والسلام ذات يوم مع أصحابه، فلما ارتفع النهار مروا بزرع قد أفرك. فقالوا: يا نبي الله إنّا جياع فأوحى الله تعالى إليه أن ائذن لهم في قوتهم. فأذن لهم، فتفرقوا في الزرع يفركون ويأكلون، فبينما هم كذلك إذ جاء صاحب الزرع يقول:
زرعي وأرضي ورثتها من أبي وجدي، فبإذن من تأكلون يا هؤلاء؟ قال: فدعا عيسى ربه أن يبعث جميع من ملكها من لدن آدم إلى تلك الساعة، فإذا عند كل سنبلة ما شاء الله من رجل، وامرأة يقولون: أرضنا ورثناها عن آبائنا وأجدادنا، ففر الرجل منهم، وكان قد بلغه أمر عيسى ولكن لا يعرفه، فلما عرفه قال: معذرة إليك يا نبي الله لم أعرفك، زرعي ومالي حلال لك، فبكى عيسى عليه الصلاة والسلام وقال: ويحك هؤلاء كلهم ورثوها وعمروها، ثم ارتحلوا عنها، وأنت مرتحل عنها ولا حق بهم، ليس لك أرض ولا مال «١» .
ولما مات الإسكندر قال أرسطاطاليس: أيها الملك لقد حركتنا بسكوتك، وقال بعض الحكماء من أصحابه: لقد كان الملك أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس. أخذه أبو العتاهية فقال:
كفى حزنا بدفنك ثم إنّي ... نفضت تراب قبرك من يديّا
وكانت في حياتك لي عظات ... وأنت اليوم أوعظ منك حيّا
وقال عبد الله بن المعتز:
نسير إلى الآجال في كلّ ساعة ... فأيامنا تطوى وهنّ مراحل
ولم أر مثل الموت حتى كأنّه ... إذا ما تخطّته الأماني باطل
وما أقبح التفريط في زمن الصبا ... فكيف به والشيب في الرأس شاعل
ترحلّ من الدنيا بزاد من التقى ... فعمرك أيام تعدّ قلائل
وقال عبد الله بن المعلم: خرجنا من المدينة حجّاجا فإذا أنا برجل من بني هاشم من بني العباس بن عبد المطلب قد رفض الدنيا، وأقبل على الآخرة، فجمعتني وإياه الطريق، فأنست به وقلت له: هل لك أن تعادلني، فإن معي فضلا من راحلتي، فجزاني خيرا وقال:
لو أردت هذا لكان سهلا، ثم أنس إلي فجعل يحدثني فقال: أنا رجل من ولد العباس كنت أسكن البصرة وكنت ذا كبر شديد ونعمة طائلة ومال كثير وبذخ زائد، فأمرت يوما خادما لي أن يحشو لي فراشا من حرير ومخدة بورد نثير ففعل، فإني لنائم إذا بقمع وردة قد نسيه الخادم، فقمت إليه فأوجعته ضربا، ثم عدت إلى مضجعي بعد إخراج القمع من المخدة، فأتاني آت في منامي في صورة فظيعة فهزني وقال: أفق من غشيتك وانتبه من رقدتك، ثم أنشأ يقول: