وكلمته رأس الزاهدين، وإمام السائحين، أين محمد خاتم النبيين، أين أصحابه الأبرار، أين الأمم الماضية، أين الملوك السالفة، أين القرون الخالية، أين الذين نصبت على مفارقهم التيجان، أين الذين قهروا الأبطال والشجعان، أين الذين دانت لهم المشارق والمغارب، أين الذين تمتعوا باللذات والمشارب، أين الذين تاهوا على الخلائق كبرا وعتيا، أين الذين راحوا في الحلل بكرة وعشيا، أين الذين اغتروا بالأجناد، أين أصحاب الوزراء، والقواد، أين أصحاب السطوة والأعوان، أين أصحاب الإمرة والسلطان، أين أصحاب الأعمال والولايات، أين الذين خفقت على رؤوسهم الألوية والرايات، أين الذين قادوا الجيوش والعساكر، أين الذين عمروا القصور والدساكر، أين الذين أعطوا النصر في موطن الحروب، والمواقف، أين الذين آمنوا بسطوتهم كل خائف، أين الذين ملأوا ما بين الخافقين فخرا وعزا، أين الذين فرشوا القصور حريرا وقزا، أين الذين تضعضعت لهم الأرض هيبة وعزا هل تحس منهم من أحد، أو تسمع لهم ذكرا، أفناهم الله مفني الأمم وأبادهم مبيد الرمم وأخرجهم من سعة القصور إلى ضيق القبور تحت الجنادل والصخور فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم لم ينفعهم ما جمعوا ولا أغنى عنهم ما اكتسبوا، أسلمهم الأحباء والأولياء، وهجرهم الإخوان الأصفياء، ونسيهم الأقرباء والبعداء، لو نطقوا لأنشدوا:
مقيم بالحجون رهين رمس ... وأهلي راحلون بكل واد «١»
كأنّي لم أكن لهمو حبيبا ... ولا كانوا الأحبّة في السواد
فعوجوا بالسلام فإن أبيتم ... فأوموا بالسلام على البعاد
وقالوا: لا فخر فيما يزول، ولا غنى فيما لا يبقى، وهل الدنيا إلا كما قال بعض الحكماء المتقدمين: قدر يغلى وكنيف يملى.
وفي هذا المعنى قال الشاعر:
ولقد سألت الدار عن أخبارهم ... فتبسّمت عجبا ولم تبدي
حتى مررت على الكنيف فقال لي ... أموالهم ونوالهم عندي
ولقد أصاب ابن السماك حيث قال للرشيد لما قال له عظني، وكان بيده شربة ماء فقال له: يا أمير المؤمنين لو حبست عنك هذه الشربة أكنت تفديها بملكك، قال:
نعم، قال: يا أمير المؤمنين، لو شربتها وحبست عن الخروج أكنت تفديها بملكك؟ قال: نعم، فقال له:
لا خير في ملك لا يساوي شربة ولا بولة.
وقال ابن شبرمة: إذا كان البدن سقيما لم ينفعه الطعام، وإذا كان القلب مغرما لم تنفعه الموعظة.
وروي أن أبا العتاهية مر بدكّان ورّاق وإذا بكتاب فيه:
لا ترجع الأنفس عن غيّها ... ما لم يكن منها لها زاجر «٢»
فقال: لمن هذا البيت؟ فقيل: لأبي نواس قاله للخليفة هارون الرشيد حين نهاه عن حب الجمال وعشق الملاح، فقال: وددت أنه لي بنصف شعري.
وممن استبصر من أبناء الملوك فرأى عيب الدنيا وتقضيها وزوالها، إبراهيم أدهم بن منصور، كان من أبناء ملوك خراسان من كورة بلخ، لما زهد الدنيا زهد في ثمانين سريرا. قال ابن بشار: سألت ابراهيم بن أدهم:
كيف كان بدء أمرك حتى صرت إلى هذا؟ فقال: كان أبي من ملوك خراسان وكان قد حبب إلي الصيد، فبينا أنا راكب فرسي وكلبي معي إذ رأيت ثعلبا أو أرنبا، فحركت فرسي نحوه، فسمعت نداء من ورائي: يا إبراهيم ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت، فوقفت أنظر يمنة ويسرة، فلم أر أحدا، فقلت: لعن الله الشيطان. ثم حركت فرسي، فسمعت نداء أعلى من الأول: يا إبراهيم ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت. فوقفت أنظر يمنة ويسرة، فلم أر شيئا، فقلت: لعن الله الشيطان، ثم حركت فرسي، فسمعت النداء من قربوس سرجي: يا إبراهيم ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت، فوقفت وقلت: هيهات جاءني النذير من رب العالمين، والله لا عصيت ربي ما عصمني بعد يومي هذا.
فتوجهت إلى أهلي وخلفت فرسي وجئت إلى بعض رعاة أبي، فأخذت جبته وكساءه وألقيت إليه ثيابي، فلم أزل أرض تقلني وأرض تضعني حتى صرت إلى العراق فعملت بها أياما فلم يصف لي شيء من الحلال، فسألت بعض المشايخ عن الحلال فقال: عليك بالشام، قال: فانصرفت إلى بلد يقال لها المنصورية «٣» ، فعلمت بها أياما، فلم