أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ
«١» فقال: اضربوا به الأرض، فلما ضربوا به الأرض قال: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى ٥٥
«٢» فقال: جروه، فأقبلوا يجرونه وهو يقول: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ٤١
«٣» فقال الحجاج: ويلكم اتركوه فقد غلبني دهاء وخبثا، ثم عفا عنه، وأنعم عليه، وخلى سبيله.
وحدث الزبير قال: دخل محمد بن عبد الملك بن صالح على المأمون، وقد كانت ضياعهم أخذت، فقال:
السلام عليك يا أمير المؤمنين. محمد بن عبد الملك بين يديك سليل نعمتك وغصن من أغصان دوحتك، أتأذن له في الكلام، فقال: تكلم. قال: الحمد لله رب العالمين ولا إله إلا الله رب العرش العظيم، وصلى الله والملائكة على محمد خاتم النبيين، ونستمتع الله لحياطة ديننا ودنيانا، ورعاية أدنانا وأقصانا ببقائك يا أمير المؤمنين، ونسأل الله أن يمد في عمرك من أعمارنا، وأن يقيك الأذى بأسماعنا وأبصارنا، فإن الحق لا تعفو آثاره، ولا ينهدم مناره، ولا ينبت حبله، ولا يزول ما دمت بين الله وبين عباده، والأمين على بلاده يا أمير المؤمنين. هذا المقام مقام العائذ بظلك، الهارب إلى كنفك، الفقير إلى رحمتك وعدلك من تعاود النوائب وسهام المصائب وكلب الدهر، وذهاب النعمة، وفي نظر أمير المؤمنين ما يفرج كربة المكروب، ويبرد غليل القلوب، وقد نفذ أمر أمير المؤمنين في الضياع التي أفادناها نعم آبائه الطيبين، ونوافل أسلافه الطاهرين الراشدين، وقد قمت مقامي هذا متوسلا إليك بآبائك الطيبين وبالرشيد خير الهداة الراشدين، والمهدي ناصر المسلمين، والمنصور منكل الظالمين، ومحمد خير المحمدين بعد خاتم النبيين مزدلفا إليك بالطاعة التي أفرع عليها غصني واحتنكت بها سني، وريّش بها جناحي، متعوذا من شماتة الأعداء وحلول البلاء، ومقارفة الشدة بعد الرخاء، يا أمير المؤمنين قد مضى جدك المنصور وعمك صالح بن علي جدي وبينهما من الرضاع والنسب ما علمه أمير المؤمنين، وعرفه، وقد أثبت الله الحق في نصابه، وأقره في داره، وأربابه، يا أمير المؤمنين إن الدهر ذو اغتيال، وقد يقلب حالا بعد حال فارحم يا أمير المؤمنين الصبية الصغار، والعجائز الكبار الذين سقاهم الدهر كدرا بعد صفو، ومرا بعد حلو، وهبنا نعم آبائك اللاتي غذتنا صغارا وكبارا وشبابا وأشياخا وأمشاجا في الأصلاب، ونطفا في الأرحام، وقدمنا في القرابة حيث قدمنا الله منك في الرحم، فإن رقابنا قد ذلت لسخطك، ووجوهنا قد عنت لطاعتك، فأقلنا عثرتنا يا أمير المؤمنين، إن الله قد سهل بك الوعور وجلا بك الديجور وملأ من خوفك القلوب والصدور، بك يرع الفاسق ويقمع بك المنافق، فارتبط نعم الله عندك بالعفو والإحسان فإن كل راع مسؤول عن رعيته، وإن النعم لا ينقطع المزيد فيها حتى ينقطع الشكر عليها، يا أمير المؤمنين إنه لا عفو أعظم من عفو إمام قادر عن مذنب عاثر، وقد قال الله جل ثناؤه، وتعالت قدرته: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
«٤» أحاط الله أمير المؤمنين بستره الواقي ومنعه الكافي ثم أنشد يقول:
أمير المؤمنين أتاك ركب ... لهم قربى وليس لهم تلاد «٥»
هم الصدر المقدّم من قريش ... وأنت الرأس تتبعك العباد
لقد طابت بك الدنيا ولذّت ... وأرجو أن يطيب بك المعاد
فكيف تنالكم لحظات عين ... وكيف يقلّ سؤددك البلاد
قال: فاستحسن المأمون كلامه وأمر له بالحلل الفاخرة والجوائز السنية، وأمر برد ضياعه وقرب منزلته وأدناه، ودفع إليه من المال ما أغناه.
ومن حكايات الفصحاء ونوادر البلغاء ما حكي أن عبد الملك بن مروان جلس يوما وعنده جماعة من خواصه وأهل مسامرته، فقال: أيكم يأتيني بحروف المعجم في بدنه وله عليّ ما يتمناه، فقام إليه سويد بن غفلة، فقال: أنا لها يا أمير المؤمنين، قال: هات. فقال: نعم يا أمير المؤمنين. أنف بطن ترقوة ثغر جمجمة حلق خد دماغ ذكر رقبة زند ساق شفة صدر ضلع طحال ظهر عين غبب فم قفا كف لسان منخر نغنوغ هامة، وجه يد، وهذه آخر حروف المعجم، والسلام على أمير المؤمنين.