فقام بعض أصحاب عبد الملك، وقال: يا أمير المؤمنين أنا أقولها من جسد الإنسان مرتين، فضحك عبد الملك وقال لسويد: أسمعت ما قال: قال: أصلح الله الأمير أنا أقولها ثلاثا، فقال: هات ولك ما تتمناه، فابتدأ يقول: أنف أسنان أذن، بطن بنصر بزة، ترقوة تمرة تينة، ثغر ثنايا ثدي، جمجمة جنب جبهة، حلق حنك حاجب، خد خنصر خاصرة، دبر دماغ درادير، ذقن ذكر ذراع، رقبة رأس ركبة، زند زردمة زب، فهناك ضحك عبد الملك حتى استلقى على قفاه، ساق سرة سبابة، شفة شفر شارب، صدر صدع صلعة، ضلع ضفيرة ضرس، طحال طرة طرف، ظهر ظفر ظلم، عين عنق عاتق، غبب غلصمة غنة، فم فك فؤاد، قلب قفا قدم، كف كتف كعب لسان لحية لوح، منخر مرفق منكب، نغنوغ ناب نن، هامة هيئة هيف وجه وجنة ورك، يمين يسار يافوخ. ثم نهض مسرعا، فقبل الأرض بين يدي أمير المؤمنين قال: فعندها ضحك عبد الملك وقال: والله ما تزيدنا عليها شيئا أعطوه ما يتمناه، ثم أجازه وأنعم عليه، وبالغ في الإحسان إليه.
وكان الحجاج بن يوسف الثقفي من الفصحاء، وكان على عتوه وإسرافه جوادا، وكان إذا ضحك واستغرق في الضحك أتبع ذلك الاستغفار مرات، وكان يطعم على ألف خوان، وكان يطوف على الموائد ويقول: يا أهل الشام مزقوا الخبز لئلا يعود إليكم ثانيا، وكان يجلس على كل مائدة عشرة رجال، وذلك في كل يوم وكان يقول: أرى الناس يتخلفون عن طعامي، فقيل له: إنهم يكرهون الحضور قبل أن يدعوا، فقال: قد جعلت رسولي إليهم كل يوم الشمس إذا طلعت وعند المساء إذا غربت.
حكي عن عبد الملك بن عمير أنه قال: لما بلغ أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان اضطراب أهل العراق جمع أهل بيته وأولي النجدة من جنده، وقال: أيها الناس، إن العراق كدر ماؤها، وكثر غوغاؤها، وأملولح عذبها، وعظم خطبها، وظهر ضرامها، وعسر إخماد نيرانها فهل من ممهد لهم بسيف قاطع، وذهن جامع، وقلب ذكي، وأنف حمي، فيخمد نيرانها، ويردع غيلانها، وينصف مظلومها، ويداوي الجرح حتى يندمل فتصفو البلاد، وتأمن العباد، فسكت القوم، ولم يتكلم أحد.
فقام الحجاج وقال: يا أمير المؤمنين أنا للعراق. قال:
ومن أنت لله أبوك؟ قال: أنا الليث الضمضام، والهزبر الهشام، أنا الحجاج بن يوسف. قال: ومن أين؟ قال: من ثقيف كهوف الضيوف ومستعمل السيوف. قال: أجلس لا أم لك، فلست هناك.
ثم قال: ما لي أرى الرؤوس مطرقة والألسن معتقلة، فلم يجبه أحد، فقام إليه الحجاج وقال: أنا مجندل الفساق، ومطفىء نار النفاق، قال: ومن أنت؟ قال: أنا قاصم الظلمة، ومعدن الحكمة الحجاج بن يوسف معدن العفو والعقوبة، آفة الكفر والريبة، قال إليك عني، وذاك، فلست هناك.
ثم قال: من للعراق؟ فسكت القوم، وقام الحجاج وقال: أنا للعراق، فقال: إذن أظنك صاحبها والظافر بغنائمها وإن لكل شيء يا ابن يوسف آية وعلامة. فما آيتك وما علامتك؟ قال: العقوبة والعفو، والاقتدار والبسط، والازورار والإدناء، والابعاد والجفاء، والبر والتأهب، والحزم وخوض غمرات الحروب بجنان غير هيوب، فمن جادلني قطعته، ومن نازعني قصمته، ومن خالفني نزعته، ومن دنا مني أكرمته، ومن طلب الأمان أعطيته، ومن سارع إلى الطاعة بجلته، فهذه آيتي وعلامتي، وما عليك يا أمير المؤمنين أن تبلوني، فإن كنت للأعناق قطاعا، وللأموال جماعا، وللأرواح نزاعا، ولك في الأشياء نفاعا. وإلا فليستبدل بي أمير المؤمنين، فإن الناس كثير، ولكن من يقوم بهذا الأمر قليل.
فقال عبد الملك: أنت لها، فما الذي تحتاج إليه؟ قال:
قليل من الجند والمال، فدعا عبد الملك صاحب جنده فقال: هيىء له من الجند شهوته وألزمهم طاعته، وحذرهم مخالفته، ثم دعا الخازن، فأمره بمثل ذلك، فخرج الحجاج قاصدا نحو العراق.
قال عبد الملك بن عمير: فبينما نحن في المسجد الجامع بالكوفة إذا أتانا آت فقال: هذا الحجاج قدم أميرا على العراق، فتطاولت الأعناق نحوه وأفرجوا له عن صحن المسجد، فإذا نحن به يمشي وعليه عمامة حمراء متلثما بها، ثم صعد المنبر، فلم يتكلم كلمة واحدة، ولا نطق بحرف حتى غص المسجد بأهله، وأهل الكوفة يومئذ ذوو حالة حسنة وهيئة جميلة، فكان الواحد منهم يدخل المسجد ومعه العشرون والثلاثون من أهل بيته ومواليه وأتباعه عليهم الخز والديباج قال: وكان في المسجد يومئذ عمير بن صابىء التميمي، فلما رأى الحجاج على المنبر قال لصاحب له: أحصبه لكم؟
قال: اكفف حتى نسمع ما يقول، فأبى ابن صابىء وقال: لعن الله بني أمية حيث يولون ويستعملون مثل هذا