على العراق، وضيع الله العراق حيث يكون هذا أميرها، فوالله لو دام هذا أميرا كما هو ما كان بشيء، والحجاج ساكت ينظر يمينا وشمالا، فلما رأى المسجد قد غص بأهله قال: هل اجتمعتم؟
فلم يرد عليه أحد شيئا، فقال: إني لا أعرف قدر اجتماعكم، فهل اجتمعتم؟
فقال رجل من القوم: قد اجتمعنا أصلح الله الأمير، فكشف عن لثامه، ونهض قائما فكان أول شيء نطق به أن قال: والله إني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها، وإني لأرى الدماء ترقرق بين العمائم واللحى، والله يا أهل العراق إن أمير المؤمنين نثر كنانة بين يديه فعجم عيدانها، فوجدني أمرّها عودا، وأصلبها مكسرا، فرماكم بي لأنكم طالما أثرتم الفتنة، واضطجعتم في مراقد الضلال، والله لأنكلن بكم في البلاد، ولأجعلنكم مثلا في كل واد، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، وإني يا أهل العراق لا أعد إلّا وفيت، ولا أعزم إلا أمضيت، فإياي وهذه الزرافات والجماعات، وقيل وقال، وكان ويكون، يا أهل العراق: إنما أنتم أهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، فكفرت بأنعم الله، فأتاها وعيد القرى من ربها، فاستوثقوا واستقيموا، واعملوا، ولا تميلوا، وتابعوا، وبايعوا، واجتمعوا، واستمعوا، فليس مني الإهدار والإكثار إنما هو هذا السيف، ثم لا ينسلخ الشتاء من الصيف حتى يذل الله لأمير المؤمنين صعبكم، ويقيم له أودكم؛ ثم إني وجدت الصدق مع البر ووجدت البر في الجنة، ووجدت الكذب مع الفجور، ووجدت الفجور في النار، وقد وجهني أمير المؤمنين إليكم، وأمرني أن أنفق فيكم وأوجهكم لمحاربة عدوكم مع المهلب بن أبي صفرة، وإني أقسم بالله لا أجد رجلا يتخلف بعد أخذ عطائه بثلاثة أيام إلا ضربت عنقه، يا غلام: اقرأ كتاب أمير المؤمنين.
فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عبد الملك بن مروان إلى من بالكوفة من المسلمين سلام عليكم، فلم يرد أحد شيئا.
فقال الحجاج: اكفف يا غلام، ثم أقبل على الناس فقال: أيسلم عليكم أمير المؤمنين فلا تردون شيئا عليه؟
هذا أدبكم الذي تأدبتم به، أما والله لأؤدبنكم أدبا غير هذا الأدب، اقرأ يا غلام، فقرأ حتى بلغ قوله: سلام عليكم فلم يبق أحد إلا قال: وعلى أمير المؤمنين السلام، ثم نزل بعدما فرغ من خطبته وقراءته، ووضع للناس عطاياهم، فجعلوا يأخذونها حتى أتاه شيخ يرعش، فقال: أيها الأمير إني على الضعف كما ترى، ولي ابن هو أقوى مني على الأسفار، أفتقبله بديلا مني؟ فقال: نقبله أيها الشيخ، فلما ولى قال له قائل: أتدري من هذا أيها الأمير؟ قال: لا.
قال: هذا ابن صابىء الذي يقول:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله «١»
ولقد دخل هذا الشيخ على عثمان رضي الله عنه وهو مقتول، فوطىء في بطنه، فكسر ضلعين من أضلاعه، فقال الحجاج: ردوه فلمّا ردوه قال له الحجاج: أنت الفاعل بأمير المؤمنين عثمان ما فعلت يوم قتل في الدار؟
إن في قتلك أيها الشيخ إصلاحا للمسلمين. يا سياف أضرب عنقه، فضرب عنقه، وكان من أمره بعد ذلك ما عرف وسطر.
ومن حكايات الحجاج ما حكي أنه لما أسرف في قتل أسرى دير الجماجم، وأعطى الأموال، بلغ ذلك أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، فشق عليه، وكتب إليه، أما بعد، فقد بلغني عنك إسراف في الدماء، وتبذير في العطاء، وقد حكمت عليك في الدماء في الخطأ بالدية، وفي العمد بالقود، وفي الأموال أن تردها إلى مواضعها، ثم تعمل فيها برأيي، فإنما هو مال الله تعالى، ونحن أمناؤه، فإن كنت أردت الناس لي فما أغناني عنهم، وإن كنت أردتهم لنفسك فما أغناك عنهم، وسيأتيك عني أمران: لين وشدة، فلا يؤمننك إلا الطاعة، ولا يوحشنك إلا المعصية، وإذا أعطاك الله عز وجل الظفر، فلا تقتلن جانحا، ولا أسيرا، وكتب في أسفل الكتاب:
إذا أنت لم تترك أمورا كرهتها ... وتطلب رضائي بالذي أنا طالبه
فإن تر منّي غفلة قرشية ... فيا ربما قد غصّ بالماء شاربه «٢»
وأن تر منّي وثبة أموية ... فهذا وهذا كلّ ذا أنا صاحبه