فلا تأمننّي والحوادث جمة ... فإنك تجزي بالذي أنت كاسبه
فلا تعد ما يأتيك منّي وإن تعد ... يقمن به يوما عليك نوادبه «١»
فلا تمنعنّ الناس حقا علمته ... ولا تعطين ما ليس للناس واجبه
فإنك إن تعطي الحقوق فإنّما ... النّوافل شيء لا يثيبك واهبه «٢»
فلما ورد الكتاب على الحجاج كتب إلى أمير المؤمنين أما بعد، فقد ورد كتاب أمير المؤمنين بذكر إسرافي وتبذيري في الأموال. ولعمري ما بلغت في عقوبة أهل المعصية، ولا قضيت حقوق أهل الطاعة، فإن كان قتلي العصاة إسرافا وإعطائي المطيعين تبذيرا، فليمض لي أمير المؤمنين ما سلف والله ما أصبت القوم خطأ فأوديهم ولا ظلمتهم عمدا فأقاديهم ولا قتلت إلا لك، ولا أعطيت إلا فيك، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، وكتب في أسفل الكتاب:
إذا أنا لا أبغي رضاك وأتّقي ... أذاك فليلي لا توارى كواكبه
وما لامرىء بعد الخليفة جنّة ... تقيه من الأمر الذي هو راكبه
إذا قارف الحجاج فيك خطيئة ... لقامت عليه بالصباح نوادبه
إذا أنا لم أدن الشفيق لنصحه ... واقص الذي تسري إليّ عقاربه
وأعط المواسي في البلاء عطية ... لردّ الذي ضاقت عليّ مذاهبه
فمن يتّقي بؤسي ويرجو مودتي ... ويخشى غدا والدهر جم نوائبه
وأمري إليك اليوم ما قلت قلته ... وما لم تقله لم أقل ما يقاربه
ومهما أردت اليوم مني أردته ... وما لم ترده اليوم إنّي مجانبه
وقف بي على حدّ الرضا لا أجوزه ... مدى الدهر حتى يرجع الدرّ حالبه «٣»
وإلّا فدعني والأمور فإنّني ... شفيق رفيق أحكمته تجاربه
فلما انتهى الكتاب إلى عبد الملك قال: خاف أبو محمد صولتي ولن يعاود لأمر كرهته إن شاء الله تعالى، فمن يلومني على محبته، يا غلام أكتب إليه: الشاهد يرى ما لا يرى الغائب وأنت أعلى عينا بما هناك.
وفي مروج الذهب للمسعودي: أن أم الحجاج وهي الفارعة بنت همام، ولدته مشوها لا دبر له، فثقب له دبر وأبى أن يقبل الثدي وأعياهم أمره، فيقال: إن الشيطان تصور لهم في صورة الحارث بن كلدة حكيم العرب، فسألهم عن ذلك، فأخبره مخبر من أهله، فقال لهم:
اذبحوا له تيسا وألعقوه من دمه، وأولغوه فيه، ثم أطلوا به وجهه، ففعلوا ذلك، فقبل الثدي، فلأجل ذلك كان لا يصبر عن سفك الدماء، وكان يخبر عن نفسه أن أكبر لذاته سفك الدماء وارتكاب أمور لا يقدر غيره عليها، وكانت أمه متزوجة قبل أبيه الحارث بن كلدة، فدخل عليها يوما في السحر، فوجدها تخلل أسنانها فطلقها، فسألته لم فعل؟ فقال لها: إن كنت باكرت الغداء فأنت شرهة، وإن كان بقايا طعام بفيك، فأنت قذرة، فقالت:
كل ذلك لم يكن، وإنما تخللت من شظايا السواك، فقال:
قضي الأمر، فتزوجها بعده يوسف بن عقيل الثقفي فأولدها الحجاج.
وقيل إن الحجاج تقلد الإمارة وهو ابن عشرين سنة، ومات وله ثلاث وخمسون سنة، وكان من عنف السياسة، وثقل الوطأة، وظلم الرعية، والإسراف في القتل على ما لا يبلغه وصف، أحصي من قتله الحجاج بأمره سوى من قتله في حروبه فكانوا مائة ألف وعشرين ألفا، ووجد في سجنه خمسون ألف رجل، وثلاثون ألف امرأة، لم يجب على أحد منهم قطع ولا قتل، وكان يحبس الرجال والنساء في موضع واحد، ولم يكن لحبسه سقف يستر الناس من الحر والبرد.
وقيل للشعبي، أكان الحجاج مؤمنا؟ قال: نعم بالطاغوت، وقال: لو جاءت كل أمة بخبيثها وفاسقها