للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فيه، وأوحشه منه، وصرف وجه ميله إليه عنه، فتألم المنصور من ذلك وساء ظنه، وتأرق جفنه، وقلّ أمنه، وتزايد خوفه، وحزنه، فأدته فكرته إلى أمر دبره وكتمه عن جميع حاشيته وستره، واستحضر ابن عمه عيسى بن موسى وأجراه على عادة إكرامه، ثم أخرج من كان بحضرته وأقبل على عيسى وقال له: يا ابن العم إني مطلعك على أمر لا أجد غيرك من أهله، ولا أرى سواك مساعدا لي على حمل ثقله، فهل أنت في موضع ظني بك، وعامل ما فيه بقاء نعمتك التي هي منوطة ببقاء ملكي، فقال له عيسى بن موسى: أنا عبد أمير المؤمنين ونفسي طوع أمره ونهيه، فقال: إن عمي وعمك عبد الله قد فسدت بطانته، واعتمد على ما بعضه يبيح دمه، وفي قتله صلاح ملكنا، فخذه إليك واقتله سرا، ثم سلمه إليه، وعزم المنصور على الحج مضمرا أن ابن عمه عيسى إذا قتل عمه عبد الله ألزمه القصاص، وسلمه إلى أعمامه أخوة عبد الله ليقتلوه به قصاصا، فيكون قد استراح من الاثنين عبد الله وعيسى. قال عيسى: فلما أخذت عمي وفكرت في قتله رأيت من الرأي أن أشاور في قضيته من له رأي عسى أن أصيب الصواب في ذلك، فأحضرت يونس ابن قرة الكاتب، وكان لي حسن ظن في رأيه، وعقيدة صالحة في معروفه، فقلت له: إن أمير المؤمنين دفع إليّ عمه عبد الله وأمرني بقتله وإخفاء أمره، فما رأيك في ذلك وما تشير به؟

فقال لي يونس: أيها الأمير احفظ نفسك يحفظ عمك وعم أمير المؤمنين، فإني أرى لك أن تدخله في مكان داخل دارك وتكتم أمره عن كل أحد ممن عندك، وتتولى بنفسك حمل طعامه وشرابه إليه، وتجعل دونه مغالق وأبوابا، وأظهر لأمير المؤمنين أنك قتلته وأنفذت أمره فيه، وانتهيت إلى العمل بطاعته، فكأني به إذا تحقق منك أنك فعلت ما أمرك به، وقتلت عمه أمرك بإحضاره على رؤوس الأشهاد، فإن اعترفت أنك قتلته بأمره أنكر أمره لك وآخذك بقتله وقتلك.

قال عيسى بن موسى: فقبلت مشورة يونس وعملت بها، وأظهرت لأمير المؤمنين أني أنفذت أمره، ثم حج المنصور، فلما قدم من حجه وقد استقر في نفسه أنني قد قتلت عمه عبد الله دسّ إليّ عمومته أخوة عبد الله، وحثهم على أن يسألوه في أخيهم، ويستوهبوه منه، فجاءوا إليه وقد جلس والناس بين يديه على مراتبهم، فسألوه في عبد الله فقال: نعم إن حقوقكم تقتضي إسعافكم بحاجتكم كيف وفيها صلة رحم وإحسان إلى من هو في مقام الوالد، ثم أمر بإحضار عيسى بن موسى، فأحضر لوقته فقال:

يا عيسى كنت دفعت إليك قبل خروجي إلى الحج عمي عبد الله ليكون عندك في منزلك إلى حين رجوعي، فقال عيسى: قد فعلت يا أمير المؤمنين. فقال المنصور: وقد سألني فيه عمومتك وقد رأيت الصفح عنه وقضاء حاجتهم وصلة الرحم بإجابة سؤالهم فيه، فائتنا به الساعة.

قال عيسى: فقلت يا أمير المؤمنين ألم تأمرني بقتله والمبادرة إلى ذلك؟ قال: كذبت لم آمرك بذلك ولو أردت قتله لأسلمته إلى من هو بصدد ذلك، ثم أظهر الغيظ، وقال لعمومته: قد أقر بقتل أخيكم مدعيا أنني أمرته بقتله، وقد كذب عليّ.

قالوا: يا أمير المؤمنين فادفعه إلينا لنقتله به ونقتص منه، فقال: شأنكم به. قال عيسى: فأخذوني إلى الرحبة واجتمع الناس عليّ، فقام واحد من عمومتي إلي وسل سيفه ليضربني به، فقلت له: يا عم أفاعل أنت؟ قال: أي والله كيف لا أقتلك وقد قتلت أخي فقال لهم: لا تعجلوا وردوني إلى أمير المؤمنين فردوني إليه فقلت: يا أمير المؤمنين إنما أردت قتلي بقتله، والذي دبرته علي عصمني الله تعالى من فعله، وهذا عمك باق حي سوي، فإن أمرتني بدفعه إليهم دفعته الساعة.

فأطرق المنصور، وعلم أن ريح فكره صادفت إعصارا وأن انفراده بتدبيره قارف خسارا، ثم رفع رأسه وقال: ائتنا به، فمضى عيسى وأحضر عبد الله، فلما رآه المنصور قال لعمومته: اتركوه عندي وانصرفوا حتى أرى فيه رأيا. قال عيسى: فتركته وانصرفت وانصرف إخوته، فسلمت روحي، وزالت كربتي، وكان ذلك ببركة الاستشارة بيونس وقبول مشورته والعمل بها، ثم إن المنصور أسكن عبد الله في بيت أساسه قد بني على الملح ثم أرسل الماء حوله ليلا فذاب الملح وسقط البيت، فمات عبد الله، ودفن بمقابر باب الشام، وسلم عيسى من هذه المكيدة ومن سهام مراميها البعيدة.

ومما جاء في النصيحة: إعلموا أن النصيحة للمسلمين وللخلائق أجمعين من سنن المرسلين، قال الله تعالى إخبارا عن نوح عليه الصلاة والسلام: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٣٤

«١» . وقال شعيب عليه السلام:

<<  <   >  >>