وقال ابن المعتز: المشورة راحة لك، وتعب على غيرك. وقال الأحنف: لا تشاور الجائع حتى يشبع، ولا العطشان حتى يروى، ولا الأسير حتى يطلق، ولا المقل حتى يجد «١» .
ولما أراد نوح بن مريم قاضي مروان أن يزوج ابنته استشار جارا له مجوسيا، فقال: سبحان الله! الناس يستفتونك وأنك تستفتيني. قال: لا بد أن تشير عليّ.
قال: إن رئيس الفرس كسرى كان يختار المال، ورئيس الروم قيصر كان يختار الجمال، ورئيس العرب كان يختار الحسب، ورئيسكم محمد كان يختار الدين، فانظر لنفسك بمن تقتدي.
وكان يقال: من أعطى أربعا لم يمنع أربعا، من أعطى الشكر لم يمنع المزيد، ومن أعطى التوبة لم يمنع القبول، ومن أعطى الاستخارة لم يمنع الخيرة، ومن أعطى المشورة لم يمنع الصواب.
وقيل: إذا استخار الرجل ربه واستشار صحبه وأجهد رأيه فقد قضى ما عليه، ويقضي الله تعالى في أمره ما يحب.
وقال بعضهم: خمير الرأي خير من فطيره «٢» ، وتقديمه خير من تأخيره.
وقالت الحكماء: لا تشاور معلما، ولا راعي غنم، ولا كثير القعود مع النساء، ولا صاحب حاجة يريد قضاءها، ولا خائفا، ولا حاقنا «٣» . وقيل: سبعة لا ينبغي لصاحب أن يشاورهم. جاهل، وعدو وحسود، ومراء، وجبان، وبخيل، وذو هوى، فإن الجاهل يضل، والعدو يريد الهلاك، والحسود يتمنّى زوال النعمة، والمرائي واقف مع رضا الناس، والجبان من رأيه الهرب، والبخيل حريص على جمع المال فلا رأي له في غيره، وذو الهوى أسير هواه فلا يقدر على مخالفته.
وحكي أن رجلا من أهل يثرب يعرف بالأسلمي قال:
ركبني دين أثقل كاهلي، وطالبني به مستحقوه، واشتدت حاجتي إلى ما لا بد منه، وضاقت عليّ الأرض، ولم أهتد إلى ما أصنع، فشاورت من أثق به من ذوي المودة والرأي، فأشار عليّ بقصد المهلب بن أبي صفرة بالعراق، فقلت له: تمنعني المشقة وبعد الشقة وتيه المهلب، ثم إني عدلت عن ذلك المشير إلى استشارة غيره، فلا والله ما زادني على ما ذكره الصديق الأول، فرأيت أن قبول المشورة خير من مخالفتها، فركبت ناقتي وصحبت رفقة في الطريق، وقصدت العراق، فلما وصلت دخلت على المهلب، فسلمت عليه وقلت له: أصلح الله الأمير إني قطعت إليك الدهناء «٤» ، وضربت أكباد الإبل من يثرب، فإنه أشار عليّ بعض ذوي الحجى والرأي بقصدك لقضاء حاجتي، فقال: هل أتيتنا بوسيلة أو بقرابة وعشيرة، فقلت: لا. ولكني رأيتك أهلا لقضاء حاجتي، فإن قمت بها فأهل لذلك أنت، وأن يحل دونها حائل لم أذم يومك، ولم أيأس من غدك، فقال المهلب لحاجبه: اذهب به وادفع إليه ما في خزانة مالنا الساعة، فأخذني معه، فوجدت في خزانته ثمانين ألف درهم، فدفعها إليّ، فلما رأيت ذلك لم أملك نفسي فرحا وسرورا، ثم عاد الحاجب بي إليه مسرعا، فقال: هل ما وصلك يقوم بقضاء حاجتك؟ فقلت: نعم أيها الأمير وزيادة، فقال: الحمد لله على نجح سعيك، واجتنائك جني مشورتك، وتحقق ظن من أشار عليك بقصدنا، قال الأسلمي: فلما سمعت كلامه وقد أحرزت صلته أنشدته وأنا واقف بين يديه:
يا من على الجود صاغ الله راحته ... فليس يحسن غير البذل والجود
عمّت عطاياك أهل الأرض قاطبة ... فأنت والجود منحوتان من عود
من استشار فباب النجح منفتح ... لديه فيما ابتغاه غير مردود
ثم عدت إلى المدينة فقضيت ديني، ووسعت على أهلي، وجازيت المشير عليّ، وعاهدت الله تعالى أن لا أترك الاستشارة في جميع أموري ما عشت.
وحكي عن الخليفة المنصور أنه كان صدر من عمه عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس أمور مؤلمة لا تحتملها حراسة الخلافة ولا تتجاوز عنها سياسة الملك، فحبسه عنده، ثم بلغه عن ابن عمه عيسى بن موسى بن علي، وكان واليا على الكوفة ما أفسد عقيدته