بسطت، وجلادون بأيديهم السيوف يضربون الأعناق، فأومأ إلينا أن اجلسا فجلسنا، فأطرق زمانا طويلا ثم رفع رأسه والتفت إلى ابن طاوس وقال: حدثني عن أبيك.
قال: سمعت أبي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل أشركه الله تعالى في ملكه، فأدخل عليه الجور في حكمه» . فأمسك أبو جعفر ساعة حتى اسود ما بيننا وبينه قال مالك: فضممت ثيابي مخافة أن ينالها شيء من دم ابن طاوس، ثم قال: يا ابن طاوس ناولني هذه الدواة. فأمسك عنه، فقال: ما يمنعك أن تناولنيها، قال: أخاف أن تكتب بها معصية، فأكون شريكك فيها. فلما سمع ذلك قال: قوما عني. فقال ابن طاوس: ذلك ما كنا نبغي. قال مالك: فما زلت أعرف لابن طاوس فضله من ذلك اليوم.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال لكعب الأحبار: يا كعب خوّفنا. قال: أو ليس فيكم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى يا كعب، ولكن خوفنا. فقال:
يا أمير المؤمنين اعمل، فإنك لو وافيت يوم القيامة بعمل سبعين نبيا، لازدريت عملهم مما ترى، فنكس عمر رضي الله عنه رأسه، وأطرق مليا، ثم رفع رأسه، وقال: يا كعب خوّفنا. فقال: يا أمير المؤمنين: لو فتح من جهنم قدر منخر ثور بالمشرق ورجل بالمغرب لغلى دماغه، حتى يسيل من حرها، فنكس عمر رأسه ثم أفاق، فقال:
يا كعب زدنا، فقال: يا أمير المؤمنين إن جهنم لتزفر زفرة يوم القيامة، فلا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا على ركبتيه يقول: يا رب لا أسألك اليوم إلا نفسي.
وقال سيدي الشيخ أبو بكر الطرطوشي رحمه الله تعالى عليه: دخلت على الأفضل بن أمير الجيوش، وهو أمير على مصر، فقلت: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد السلام على نحو ما سلمت ردا جميلا، وأكرمني إكراما جزيلا، وأمرني بدخول مجلسه، وأمرني بالجلوس فيه. فقلت: أيها الملك إن الله تعالى قد أحلك محلا عليا شامخا، وأنزلك منزلا شريفا باذخا، وملكك طائفة من ملكه، وأشركك في حكمه، ولم يرض أن يكون أمر أحد فوق أمرك، فلا ترض أن يكون أحد أولى بالشكر منك، وليس الشكر باللسان، وإنما هو بالفعال والإحسان. قال الله تعالى: اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً
«١» ، واعلم أن هذا الذي أصبحت فيه من الملك إنما صار إليك بموت من كان قبلك، وهو خارج عنك بمثل ما صار إليك، فاتق الله فيما خولك من هذه الأمة، فإن الله تعالى سائلك عن الفتيل والنقير والقطمير. قال الله تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ٩٢ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ ٩٣
«٢» ، وقال تعالى: وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ
«٣» ، واعلم أيها الملك أن الله تعالى قد آتى ملك الدنيا بحذافيرها سليمان بن داود عليه السلام، فسخر له الإنس والجن والشياطين والطير والوحش والبهائم، وسخر له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، ثم رفع عنه حساب ذلك أجمع فقال له: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ
«٤» ، فو الله ما عدها نعمة كما عددتموها، ولا حسبها كرامة كما حسبتموها، بل خاف أن تكون استدراجا من الله تعالى، ومكرا به. فقال: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ
«٥» . فافتح الباب، وسهل الحجاب، وانصر المظلوم، وأغث الملهوف، أعانك الله على نصر المظلوم، وجعلك كهفا للملهوف وأمانا للخائف. ثم أتممت المجلس بأن قلت قد جبت البلاد شرقا وغربا، فما اخترت مملكة وارتحت إليها، ولذّت لي الإقامة فيها غير هذه المملكة، ثم أنشدته:
والناس أكيس من أن يحمدوا رجلا ... حتى يروا عنده آثار إحسان «٦»
وقال الفضل بن الربيع: حج هارون الرشيد سنة من السنين، فبينما أنا نائم ذات ليلة إذ سمعت قرع الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أجب أمير المؤمنين، فخرجت مسرعا، فقلت، يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك، فقال: ويحك قد حاك في نفسي شيء لا يخرجه إلا عالم، فانظر لي رجلا أسأله عنه، فقلت ههنا سفيان بن عيينة، فقال امض بنا إليه، فأتيناه، فقرعت عليه الباب، فقال: من هذا؟ فقلت: أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعا، فقال:
يا أمير المؤمنين لو أرسلت إليّ أتيتك، فقال: جد لما جئنا له، فحادثه ساعة، ثم قال له: أعليك دين؟ قال: نعم.
فقال: يا أبا العباس اقض دينه ثم انصرفنا.
فقال: ما أغنى عني صاحبك شيئا، فانظر لي رجلا