للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أسأله، فقلت: ههنا عبد الرزاق بن همام، فقال: امض بنا إليه، فأتيناه، فقرعت عليه الباب فقال: من هذا؟ قلت:

أجب أمير المؤمنين، فخرج مسرعا، فقال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي أتيتك، فقال جد لما جئنا به، فحادثه ساعة، ثم قال له: أعليك دين؟ قال: نعم. فقال:

يا أبا العباس اقض دينه، ثم انصرفنا. فقال ما أغنى عني صاحبك شيئا، فانظر لي رجلا أسأله.

فقلت: ههنا الفضيل بن عياض، فقال، امض بنا إليه، فأتيناه، فإذا هو قائم يصلي في غرفته يتلو آية من كتاب الله تعالى وهو يرددها، فقرعت عليه الباب، فقال: من هذا؟

فقلت: أجب أمير المؤمنين، فقال: ما لي ولأمير المؤمنين، فقلت: سبحان الله! أما تجب عليك طاعته؟

ففتح الباب ثم ارتقى إلى أعلى الغرفة، فأطفأ السراج ثم التجأ إلى زاوية من زوايا الغرفة، فجعلنا نجول عليه بأيدينا، فسبقت كف الرشيد كفي إليه، فقال: أواه من كف ما ألينها إن نجت غدا من عذاب الله تعالى؟

فقلت في نفسي: ليكلمنه الليلة بكلام نقي من قلب نقي، فقال: جد لما جئنا له رحمك الله تعالى، فقال: وفيم جئت حملت على نفسك، وجميع من معك حملوا عليك، حتى لو سألتهم أن يتحملوا عنك شقصا «١» من ذنب ما فعلوا ولكان أشدهم حبا لك أشدهم هربا منك.

ثم قال: إن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب القرظي، ورجاء بن حيوة، فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء، فأشيروا عليّ.

فعدّ الخلافة بلاء، وعددتها أنت وأصحابك نعمة.

فقال سالم بن عبد الله: إن أردت النجاة غدا من عذاب الله، فصم عن الدنيا، وليكن إفطارك فيها على الموت.

وقال محمد بن كعب: إن أردت النجاة غدا من عذاب الله تعالى، فليكن كبير المسلمين عندك أبا، وأوسطهم عندك أخا، وأصغرهم عندك ولدا، فبر أباك، وارحم أخاك، وتحنن على ولدك.

وقال رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غدا من عذاب الله تعالى، فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك، ثم متى شئت مت.

وإني لأقول هذا، وإني لأخاف عليك أشد الخوف يوم تزل الأقدام، فهل معك رحمك الله مثل هؤلاء القوم من يأمرك بمثل هذا. فبكى هارون الرشيد بكاء شديدا حتى غشي عليه، فقلت له: ارفق يا أمير المؤمنين، فقال: يا ابن الربيع قتلته أنت وأصحابك، وأرفق به أنا، ثم أفاق هارون الرشيد، فقال: زدني. فقال: يا أمير المؤمنين بلغني أن عاملا لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه شكا إليه سهرا، فكتب له عمر يقول: يا أخي اذكر سهر أهل النار في النار وخلود الأبدان، فإن ذلك يطرد بك إلى ربك نائما ويقظان، وإياك أن تزل قدمك عن هذا السبيل، فيكون آخر العهد بك ومنقطع الرجاء منك، فلما قرأ كتابه طوى البلاد حتى قدم عليه، فقال له عمر: ما أقدمك؟ فقال له: لقد خلعت قلبي بكتابك لا وليت ولاية أبدا حتى ألقى الله عز وجل.

فبكي هارون بكاء شديدا، ثم قال: زدني. قال يا أمير المؤمنين: إن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم جاء إليه، فقال يا رسول الله أمّرني إمارة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا عباس:

نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها. إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميرا فافعل.

فبكى هارون الرشيد بكاء شديدا، ثم قال: زدني يرحمك الله. فقال: يا حسن الوجه أنت الذي يسألك الله عن هذا الخلق يوم القيامة، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل، وإياك أن تصبح وتمسي وفي قلبك غش لرعيتك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أصبح لهم غاشا لم يرح رائحة الجنة، فبكى هارون الرشيد بكاء شديدا، ثم قال له: أعليك دين؟ قال: نعم دين لربي يحاسبني عليه، فالويل لي إن ناقشني. والويل إن سألني، والويل لي إن لم يلهمني حجتي، قال هارون:

إنما أعني دين العباد. قال: إن ربي لم يأمرني بهذا، أو إنما أمرني أن أصدق وعده وأطيع أمره. قال تعالى:

وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ٥٦ ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ٥٧ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ٥٨

«٢» . فقال له هارون: هذه ألف دينار، فخذها وأنفقها على عيالك وتقوّ بها على عبادة ربك، فقال:

سبحان الله أنا دللتك على سبيل الرشاد تكافئني أنت بمثل هذا سلمك الله ووفقك، ثم صمت، فلم يكلمنا، فخرجنا

<<  <   >  >>