الباب السابع عشر في ذكر الحجاب والولاية وما فيها من الغرر والخطر
أما الحجّاب:
فقد قيل: لا شيء أضيع للمملكة وأهلك للرعية من شدة الحجّاب. وقيل: إذا سهل الحجّاب أحجمت الرعية عن الظلم، وإذ عظم الحجّاب هجمت على الظلم.
وقال ميمون بن مهران، كنت عند عمر بن عبد العزيز، فقال لحاجبه: من بالباب؟ فقال: رجل أناخ ناقته الآن، يزعم أنه ابن بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأذن له أن يدخل، فلما دخل قال: حدثني أبي أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من ولي شيئا من أمور المسلمين ثم حجبهم عنه حجبه الله عنه يوم القيامة، فقال عمر لحاجبه:
إلزم بيتك، فما رؤي على بابه بعد ذلك حاجب.
وكان خالد بن عبد الله القشيري يقول لحاجبه: إذا أخذت مجلسي فلا تحجبن عني أحدا. فإن الوالي لا يحتجب إلا لثلاث: عيب يكره أن يطلع عليه أحد، أو ريبة يخاف منها أن تظهر، أو بخل يكره معه أن يسأل شيئا.
وكانت العجم تقول: لا شيء أضيع للمملكة من شدة حجّاب الملك، ولا شيء أهيب للرعية وأكف لهم عن الظلم من سهولته. وقيل لبعض الحكماء: ما الجرح الذي لا يندمل؟ قال: حاجة الكريم إلى اللئيم، ثم يرده بغير قضائها. قيل: فما الذي هو أشد منه؟ قال: وقوف الشريف بباب الدنيء ثم لا يؤذن له.
ووقف عبد الله بن العباس العلوي على باب المأمون يوما، فنظر إليه الحاجب ثم أطرق، فقال عبد الله لقوم معه: إنه لو أذن لنا لدخلنا، ولو صرفنا لانصرفنا، ولو اعتذر إلينا لقبلنا، وأما النظرة بعد النظرة والتوقف بعد التعرف فلا أفهم معناه، ثم تمثل بهذا البيت.
وما عن رضى كان الحمار مطيتي ... ولكنّ من يمشي سيرضى بما ركب
ثم انصرف، فبلغ ذلك المأمون، فضرب الحاجب ضربا شديدا، وأمر لعبد الله بصلة جزيلة وعشر دواب.
قال الشاعر:
رأيت أناسا يسرعون تبادرا ... إذا فتح البواب بابك أصبعا
ونحن جلوس ساكتون رزانة ... وحلما إلى أن يفتح الباب أجمعا
ووقف رجل خراساني بباب أبي دلف العجلي حينا فلم يؤذن له فكتب رقعة وتلطف في وصولها إليه وفيها:
إذا كان الكريم له حجاب ... فما فضل الكريم على اللئيم «١»
فأجابه أبو دلف بقوله:
إذا كان الكريم قليل مال ... ولم يعذر تعلّل بالحجاب
وأبواب الملوك محجّبات ... فلا تستنكرنّ حجاب بابي
ومن محاسن النظم في ذم الاحتجاب قول بعضهم:
سأهجركم حتى يلين حجابكم ... على أنه لا بدّ سوف يلين
خذوا حذركم من صفوة الدهر إنها ... وإن لم تكن خانت فسوف تخون «٢»
وقال آخر:
ماذا على بوّاب داركم الذي ... لم يعطنا إذنا ولا يستأذن
لو ردّنا ردا جميلا عنكم ... أو كان يدفع بالتي هي أحسن
وقال آخر:
أمرت بالتّسهيل في الإذن لي ... ولم ير الحاجب أن يأذنا
فلن تراني بعدها عائدا ... ولن تراه بعد مستأذنا «٣»
وقال آخر:
ولقد رأيت بباب دارك جفوة ... فيها لحسن صنيعك التكدير «٤»