[دخول ما الكافة على إن وأخواتها]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ووصل ما بذي الحروف مبطل إعمالها وقد يبقى العمل وجائز رفعك معطوفاً على منصوب إن بعد أن تستكملا وألحقت بإن لكن وأن من دون ليت ولعل وكأن] لما بين المؤلف رحمه الله ما يتعلق بإن وأخواتها من العمل وهو نصب المبتدأ ورفع الخبر، ذكر أن هناك موانع تمنع من عمل إن وأخواتها، فقال: (ووصل ما بذي الحروف مبطل إعمالها وقد يبقى العمل).
قوله: (وصل) مبتدأ، وهو مضاف إلى (ما).
بذي الحروف: متعلق بوصل.
مبطل: خبر وصل.
إعمالها: يجوز فيه وجهان: النصب على تقدير أن (مبطل) منون، والجر على تقدير أنها مضافة.
غير منونة، فتقول على الوجه الأول: مبطلٌ إعمالهَا، وعلى الوجه الثاني: مبطلُ إعمالهِا، ولكن الوجه الأول أولى، أي: أن تكون منصوبة ليكون اسم الفاعل بمنزلة الفعل، وكأنه قال: وصل ما بذي الحروف يبطل إعمالها.
قوله: (وقد يبقى العمل) قد: للتقليل.
يبقى: فعل مضارع مبني لما لم يسم فاعله.
العمل: نائب فاعل.
يقول رحمه الله: إن وصل (ما) -وهي حرف- بهذه الحروف يبطل عملها.
وقد قلت: (وهي حرف) احترازاً من (ما) الموصولة، فإن (ما) الموصولة لا تبطل عملها؛ لأن (ما) الموصولة تكون هي الاسم، مثل قوله تعالى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ} [الأنعام:١٣٤]، فما هنا لم تبطل عمل إن؛ لأنها اسم موصول بمعنى الذي، أي: إن الذي توعدونه لآت.
مثال ذلك: تقول: إن زيداً قائم، فهي الآن عاملة، فإذا أدخلت عليها (ما) قلت: إنما زيدٌ قائم، فيجب أن تهملها، وأن يكون (زيد) بعد النصب مرفوعاً، وهنا هل يختلف المعنى فيما إذا اتصلت (ما) التي أبطلت العمل، كما اختلف الإعراب؟
الجواب
نعم يختلف، فإذا قلت: إن زيداً قائم، لا يمنع أن يكون غيره قائماً أيضاً، لكن إذا قلت: إنما زيدٌ قائم، فقد حصرت زيداً في القيام فلم يقم غيره؛ لإن (إنما) أداة حصر، لكن هذا لا يتعين إلا إذا قلت: إنما زيدٌ القائم، فهنا يتعين انحصار القيام بزيد.
وتقول: علمت أن زيداً قائمٌ، فإذا قلت: علمت أنما زيدٌ قائم، أبطلت عملها.
وتقول: كأن زيداً فاهمٌ، فإذا قلت: كأنما زيدٌ فاهم، أبطلت عملها.
وتقول: ليت الطالبَ حريص، فإذا قلت: ليتما الطالبُ حريصٌ أبطلت عملها.
وتسمى (ما) كافة؛ لأنها كفت هذه الحروف عن العمل.
والعلة في ذلك: أنه لا يمكن أن تسلط إن وأخواتها على ما بعد (ما) إذا اتصلت بها، ولهذا تسمى (ما) كافة.
قوله: (وقد يبقى العمل).
قد: للتقليل، أي: قد تدخل (ما) على هذه الحروف ويبقى عملها، لكنه قليل كما أشار إليه ابن مالك رحمه الله، وظاهر كلامه أنه قليل في جميع هذه الأدوات؛ لأنه قال: (بذي الحروف)، ثم قال: (وقد يبقى العمل)، فيكون بقاء العمل بعد دخول (ما) على هذه الحروف قليلاً في كل هذه الأدوات، لكن النحويين يقولون: إنه لم يسمع إلا في (ليت).
أي: لم يسمع أن العمل يبقى مع (ما) إلا في ليت لا في غيرها، وعلى هذا فيكون التقليل في كلام ابن مالك باعتبار الأدوات لا باعتبار العمل، وأنت إذا نسبت (ليت) إلى هذه الأدوات صارت قليلة؛ لأنها واحد من ستة، فيكون التقليل في قوله: (قد يبقى العمل) باعتبار أعيان هذه الأدوات لا باعتبار العمل ووروده، وقد قلنا ذلك من أجل أن يوافق كلام غيره من النحويين رحمهم الله.
مثال ذلك في ليت: إذا أعملناها قلنا: ليتما زيداً قائمٌ، وإذا أهملناها قلنا: ليتما زيد قائم، فيجوز الوجهان، وقد روي بالوجهين قول الشاعر: قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد (فقد) بمعنى: فقط.
فقد روي: قالت ألا ليتما هذا الحمامَ لنا، وروي: قالت ألا ليتما هذا الحمامُ لنا، فأعملت (ليتما) على الرواية الأولى، وأهملت على الرواية الثانية.
والقائلة هي زرقاء اليمامة، يقولون: إنها امرأة كانت ذات بصر قوي جداً، فقد كانت ترى مسافة ثلاثة أيام على الراحلة، وذات يوم مر بها فريق من الحمام، فأدركت عدده، وقالت: إن عدده ست وستون حمامة، ومعلوم أن عدد ست وستين حمامة سوف يمضي الحمام بعيداً قبل تمام هذا العدد، ومع ذلك أدركته.
قالوا: إن هذا الحمام ورد على ماء فيه شباك، فصيد بهذا الماء، وحسب فوجدوه كما قالت، وفي هذا يقول الشاعر: واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت إلى حمام شراع وارد الثمد قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد فحسبوه فألفوه كما ذكرت تسعاً وتسعين لم تنقص ولم تزد وفي ذلك تقول زرقاء اليمامة: ليت الحمام ليه إلى حمامتيه ونصفه قديه تم الحمام ميه قولها: (قديه) أي: فقط، (تم الحمام ميه) أي: إذا أضيف إلى حمامتها، وهو ست وستون، ونصفه ثلاث وثلاثون، فإذا أضفنا ثلاثاً وثلاثين إلى ست وستين يصير المجموع تسعاً وتسعين، مع حمامتها يكون مائة، فالله أعلم.
الشاهد من هذا: أن ليت إذا اتصلت بها ما الكافة فإنه يجوز فيها الإعمال والإهمال.