[حكم حذف المضاف]
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وما يلي المضاف يأتي خلفا عنه في الاعراب إذا ما حذفا] هو المضاف إليه.
فالمعنى: أن المضاف إليه يأتي خلفاً عن المضاف في الإعراب إذا ما حذف.
وقوله: (إذا ما حذف) ما زائدة، يعني: إذا حذف.
ومعنى البيت: أنه ربما يحذف المضاف ويقوم المضاف إليه مقامه.
ومثل في الشرح بقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:٢٢]، فقال: إن الأصل: وجاء أمر ربك والملك صفاً صفاً، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.
وهذا لا شك أنه خطأ، فإن هذا مذهب أهل التحريف الذين يحرفون الكلم عن مواضعه في أسماء الله وصفاته، فما الذي أدراهم أن المعنى: وجاء أمر ربك؟ وليس عندهم دليل؛ ولهذا المحرفون لآيات الصفات يقولون على الله بلا علم من وجهين: الوجه الأول: أنهم قالوا: ما أراد الله كذا.
والوجه الثاني: أنهم قالوا: أراد كذا.
فهم قالوا: ما أراد الله أنه يجيء هو بنفسه؛ لأن المجيء عندهم مستحيل وأراد وجاء أمر ربك، فهنا قالوا على الله بلا علم، فنفوا ما قال الله، وأثبتوا ما لم يقله الله، نسأل الله السلامة.
والواجب علينا في آيات الصفات إجراؤها على ظاهرها، ولكن بشرط أن يكون هذا الظاهر لائقاً بالله عز وجل، لا يقتضي تمثيلاً ولا تشبيهاً ولا تكييفاً؛ لأن الله يتحدث عن نفسه، وهو أعلم بنفسه، ولا يمكن أن يتحدث عن نفسه بصفة وهو يريد خلافها؛ لأن هذا خلاف البيان، والله تعالى يقول في القرآن: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران:١٣٨].
بل نقول: هذه تعمية وتضليل أن يخاطب الإنسان بشيء والمراد غيره، وهذا لازم لهؤلاء المحرفة، وعليه فنقول: إن الواجب فيما أخبر الله به عن نفسه من الأسماء والصفات إجراؤها على ظاهرها وحقيقتها، ولكن يجب علينا أن نخرج من أذهاننا مسألة التشبيه، أو التمثيل، أو التكييف؛ لأن الله أعظم من أن يمثل؛ ولأنه قال سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١].
وهو أعظم من أن يكيف؛ لأنه إذا كُيف فمعناه إحاطة الذهن به، والله يقول: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه:١١٠].
إذاً: لا يصح التمثيل بالآية على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.
بل نقول: جاء ربك على ظاهرها، فهو بنفسه سبحانه وتعالى جاء، والله تعالى أعلم كيف يجيء، ونقول فيها كما قال مالك بن أنس رحمه الله: المجيء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
ونقول كما قال بعضهم: إذا قال لك الجهمي: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فكيف ينزل، فقل: إن الله أخبرنا أنه ينزل ولم يخبرنا كيف ينزل.
كذلك المجيء، نقول: أخبرنا أن الله يجيء ولم يخبرنا كيف يجيء، فعلينا أن نؤمن ونسلم.
ولو قال لنا قائل: فوضوا الأمر، وقولوا: الله أعلم بما أراد.
فنقول: لا يجوز أن نفوض؛ لأن التفويض معناه أن يبقى القرآن في كل ما يتعلق بالله لا يفهم ولا يعقل، فيكون هذا القرآن الكريم في أعظم ما جاء من أجله غير مفهوم ولا معلوم، وهذا شيء مستحيل على حكمة الله عز وجل.
ويقول الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:٢٩]، ولم يقل: إلا آيات الصفات.
وقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [النساء:٨٢]، ولم يقل: إلا آيات الصفات، ولم يستثن شيئاً، وما يتدبر فلابد أن يوصل إلى معناه، وهذا هو الذي مشى عليه السلف.
ومن قال: إن مذهب السلف هو التفويض فقد كذب عليهم.
والعجيب أني قرأت في كتاب أحكام القرآن للقرطبي المفسر المشهور كلاماً استغربته منه، حيث يقول بهذا القول، وأننا لا نقول في آيات الصفات شيئاً.
وقد قال شيخ الإسلام في كتاب العقل والنقل: إنه من شر أقوال أهل البدع والإلحاد، وقد تسلط به أهل التحريف، وقالوا: نحن أعلم بالقرآن منكم.
بل قال: تسلط به أهل الفلسفة والتكييف، وقالوا: نحن أعلم بالقرآن منكم؛ لأننا نقول: معنى القرآن كذا، وأنتم تقولون: لا نعرف معناه.
وهذه حقيقة ما قاله الشيخ رحمه الله في كتابه العقل والنقل الذي قال عنه ابن القيم: وله كتاب العقل والنقل الذي ما في الوجود له نظير ثان.
وهو كلام معقول؛ لأنه لا شك أن العالم هو الذي يقول: أنا أعرف معنى الآيات، والجاهل هو الذي يقول: لا أعرف، وهذا لا يمكن أن يكون من السلف، فالسلف أعلم الناس بمعاني القرآن كله، ما يتعلق بالصفات وغيره، حتى قال مجاهد: عرضت القرآن على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية، وأسأله عن معناها؛ ولهذا كان مجاهد رحمه الله أعلم التابعين بالتفسير.
وأنا لا أعتقد أن قلوب الذين يحرفون مطمئنة، وأن فيها السكينة أبداً؛ لأننا نقول له: ما الذي أدراك أن الله أراد هذا دون هذا؟! ولا يمكن أن يطمئن الإنسان على هذا المعنى وهو يعلم أنه سيقف بين يدي الله ويقول الله له: هل تشهد أني أردت بكلامي هذا؟ فمن يستطيع أن يؤدي هذه الشهادة؟ لكن السالم الذي يمكن أن يجيب بالصواب هو الذي يقول: نعم، أردت يا رب بكلامك هذا المعنى الذي سار عليه السلف؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب، {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:١٩٥].
ومن أمثلة التحريف ما ذكر في قول الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف:٣]، وقوله في الآية الأخرى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:٢].
فاحتج الجهمية بالآية الأولى على أن القرآن مخلوق؛ لأن الله قال: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:١]، وقال: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} [الأنعام:٩٦].
لكن جاءت الآية الأخرى تكذبه، وبالجمع بينهما يصبح معنى ((جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا)) أي: صيرناه بلغة العرب، أي: تكلمنا به بلغة العرب.
إذاً: تبين الآن أن الإنسان الذي يمر القرآن على ظاهره اللائق بالله عز وجل في آيات الصفات أنه آخذ به وقلبه مطمئن، وعليه السكينة.
بخلاف من حرف أو توقف، وقال: لا أقول شيئاً، إنما أمرها بدون أن أعتقد لها معنى.
وهذا خطأ، فلو جاءك كتاب من صديق لك، فهل تستفيد منه وأنت لا تدري ما معناه؟! ف
الجواب
لا تستفيد منه شيئاً أبداً، فكيف بالقرآن -ولله المثل الأعلى- وهو بين واضح.
وقد يقال: أيهما أسوأ التحريف أم التفويض؟ فالجواب: كلاهما له سوء من وجه، فالتحريف خير من التفويض من حيث إنه جعل للقرآن معنى، سواء صار فيه الحق أو الباطل، لكنه أشد من حيث الجرأة على الله عز وجل وأنه أراد بهذا اللفظ هذا المعنى.
والتفويض أشد من جهة أنه جعل القرآن لا معنى له، فهو بمنزلة الحروف الهجائية، وهذا سفه أن ينزل القرآن لأمة تربى على التوحيد وعلى ما يجب الله ثم تكون دلالته على هذه المعاني مفقودة، فهذا أشد من هذه الناحية، ومن جهة أن الإنسان لم يجرؤ على أن يقول على الله ما لا يعلم يكون أهون.
فكل منهما له سوء، وكلاهما ضلال.
فإن قيل: ما الحد الفاصل بين السلف والخلف؟ نقول: أولاً: اعلم أن السلف قد يراد به المذهب، وهذا يشمل من أخذ بهذا المذهب إلى يوم القيامة، وليس له حد زمني، فكل من قال بما دل عليه الكتاب والسنة فهو من السلف، وعلى هذا فلا حد له.
وأما الحد الزمني: فإن المراد بالسلف هم القرون الثلاثة المفضلة، الصحابة والتابعون وتابعوهم، فهؤلاء هم السلف، ومن بعدهم فهم خلف.
ويمكن أن يمثل لقاعدة: إذا حذف المضاف فإنه يقوم المضاف إليه مقامه، بقوله تعالى: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة:٩٣]، فالذين عبدوا العجل أشرب ذلك في قلوبهم، أي: جعلت القلوب مثل الأسفنجة التي تشرب هذا الماء.
قالوا: المراد بذلك حب عبادة العجل، فيكون المحذوف شيئين؛ أما على تقدير حب العجل فالمحذوف شيء واحد.
ولكن حقيقة الأمر أن المحذوف شيئان؛ لأن الذي أشرب في قلوبهم حب عبادة العجل.
وعلى كل حال سواء كان المقدر واحداً أو اثنين أو أكثر حسب ما يقتضيه المقام؛ فإنه يحذف المضاف ويبقى المضاف إليه معرباً فإعرابه: إن كان مرفوعاً فهو مرفوع، أو منصوباً فهو منصوب، أو مجروراً فهو مجرور، لكن المجرور لا يظهر فيه الأثر، لأن المضاف إليه يكون مجروراً.