إذْ لَا يَخْلُو الْمُكَلَّفُ غَالِبًا مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ فَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ قَبْلَ التَّلَبُّسِ بِهِ وَالْبَيْعُ وَالنِّكَاحُ عَقْدَانِ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا قَوَامُ الْعَالَمِ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ يَكْفِي رُبُعُ الْعِبَادَاتِ لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مُحْتَاجًا إلَى الْغِذَاءِ مُفْتَقِرًا لِلنِّسَاءِ وَخَلَقَ لَهُ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، وَلَمْ يَتْرُكْهُ سُدًى يَتَصَرَّفُ كَيْفَ شَاءَ بِاخْتِيَارِهِ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ثُمَّ يَجِبُ عَلَى الشَّخْصِ الْعَمَلُ بِمَا عَلِمَهُ مِنْ أَحْكَامِهِ وَيَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ وَيَحْتَرِزُ مِنْ إهْمَالِهِ فَيَتَوَلَّى أَمْرَ بَيْعِهِ وَشِرَائِهِ بِنَفْسِهِ إنْ قَدَرَ، وَإِلَّا فَغَيْرُهُ بِمُشَاوَرَتِهِ وَلَا يَتَّكِلُ فِي ذَلِكَ عَلَى مَنْ لَا يَعْرِفُ الْأَحْكَامَ أَوْ يَعْرِفُهَا وَيَتَسَاهَلُ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ وَعُمُومِهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهِ الْوُصُولُ إلَى مَا فِي يَدِ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ الرِّضَا، وَذَلِكَ مُفْضٍ إلَى عَدَمِ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ وَالسَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَالْحِيَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَهُوَ لُغَةً مَصْدَرُ بَاعَ الشَّيْءَ أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ أَوْ أَدْخَلَهُ فِيهِ بِعِوَضٍ فَهُوَ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَضْدَادِ يُطْلَقُ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ كَالْقُرْءِ لِلطُّهْرِ وَالْحَيْضِ وَلِلزَّنَاتِيِّ لُغَةُ قُرَيْشٍ اسْتِعْمَالُ بَاعَ إذَا أَخْرَجَ وَاشْتَرَى إذَا أَدْخَلَ وَهِيَ أَفْصَحُ وَاصْطَلَحَ عَلَيْهَا الْعُلَمَاءُ تَقْرِيبًا لِلْفَهْمِ وَأَمَّا شَرَى فَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى بَاعَ
ــ
[حاشية العدوي]
قَوْلُهُ إذْ لَا يَخْلُو الْمُكَلَّفُ إلَخْ) أَيْ وَأَمَّا الصَّبِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْمَجْنُونِ فَحَاجَتُهُمَا مُتَعَلِّقَةٌ بِغَيْرِهِمَا وَمِنْ غَيْرِ الْغَالِبِ يَخْلُو عَنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِتَجَرُّدِهِ لِلْعِبَادَةِ وَطَرْحِهِ الدُّنْيَا وَرِضَاهُ بِمَا يَسُوقُهُ اللَّهُ مِنْ الرِّزْقِ (قَوْلُهُ فَيَجِبُ أَنْ يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ إلَخْ) وَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ يُرِيدُ التَّلَبُّسَ بِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ فَإِنْ فَعَلَ مُتَّفَقًا عَلَى تَحْرِيمِهِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ أَثِمَ مِنْ جِهَةِ الْقُدُومِ وَالْفِعْلِ فَإِنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ فَقَالَ الْقَرَافِيُّ هَلْ نُؤَثِّمُهُ بِنَاءً عَلَى التَّحْرِيمِ أَوْ لَا بِنَاءً عَلَى التَّحْلِيلِ لَمْ أَرَ لِأَصْحَابِنَا فِيهِ نَصًّا، وَكَانَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ يَقُولُ أَنَّهُ آثِمٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَدَّمَ غَيْرَ عَالِمٍ (قَوْلُهُ قَوَامُ الْعَالَمِ) أَرَادَ عَالَمًا مَخْصُوصًا وَهُوَ النَّوْعُ الْإِنْسَانِيُّ وَالنَّوْعُ الْجِنِّيُّ؛ لِأَنَّ لَهُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْنَا (قَوْلُهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ) أَيْ نَظَرٌ الظَّاهِرُ إطْلَاقُهُ وَإِلَّا فَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى أَهْلِ التَّجْرِيدِ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا سَبَقَ حُكِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْكِنَانِيِّ أَنَّهُ كَانَ إذَا بَلَغَهُ عَنْ فَقِيرٍ أَنَّهُ مَشَى خُطْوَةً فِي طَلَبِ الرِّزْقِ هَجَرَهُ، وَيَقُولُ أَنَّهُ خَرَجَ عَنْ الطَّرِيقِ، وَإِنَّمَا شَأْنُ الْفَقِيرِ أَنْ تَتْبَعَهُ الدُّنْيَا انْتَهَى (قَوْلُهُ إلَى الْغِذَاءِ) مِثْلُ كِتَابٍ مَا يُغْتَذَى بِهِ وَهُوَ مَا تَقُومُ بِهِ بِنْيَتُهُ (قَوْلُهُ مُفْتَقِرًا لِلنِّسَاءِ) بِمَعْنَى مُحْتَاجًا، وَعَبَّرَ بِهِ دَفْعًا لِلثِّقَلِ الْحَاصِلِ بِالتَّكْرَارِ اللَّفْظِيِّ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقُوتِ (قَوْلُهُ وَخَلَقَ لَهُ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) إشَارَةٌ إلَى قَوْله تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: ٢٩] أَيْ تَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي غِذَاءٍ وَغَيْرِهِ، وَقَوْلُهُ وَلَمْ يَتْرُكْهُ إلَخْ مَعْطُوفٌ عَلَى خَلَقَ أَوْ أَنَّهَا جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ (قَوْلُهُ سُدًى) أَيْ هَمْلًا (قَوْلُهُ يَتَصَرَّفُ) تَفْسِيرٌ لِسُدًى (قَوْلُهُ بِاخْتِيَارِهِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يَتَصَرَّفُ أَيْ يَتَصَرَّفُ بِإِرَادَتِهِ كَيْفَ شَاءَ أَيْ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ شَاءَهُ (قَوْلُهُ فَيَجِبُ إلَخْ) أَيْ إذَا كَانَ اللَّهُ خَلَقَ لَهُ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، وَجَعَلَهُ مُحْتَاجًا لِلْغِذَاءِ مُفْتَقِرًا لِلنِّسَاءِ وَلَمْ يَتْرُكْهُ سُدًى يَجِبُ عَلَيْهِ إلَخْ (قَوْلُهُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ) أَيْ اتَّصَفَ بِالتَّكْلِيفِ (قَوْلُهُ ثُمَّ يَجِبُ عَلَى الشَّخْصِ) أَظْهَرَ فِي مَحَلِّ الْإِضْمَارِ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ مَزِيدُ الْإِيضَاحِ فَلَا يُبَالِي بِمِثْلِ ذَلِكَ (قَوْلُهُ مِنْ أَحْكَامِهِ) أَيْ أَحْكَامِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ (قَوْلُهُ وَيَجْتَهِدُ فِي ذَلِكَ وَيَحْتَرِزُ مِنْ إهْمَالِهِ) أَلْفَاظٌ بِمَعْنًى (قَوْلُهُ فَيَتَوَلَّى) أَيْ فَيَتَأَكَّدُ عَلَيْهِ أَيْ يُنْدَبُ لَهُ ذَلِكَ نَدْبًا أَكِيدًا.
قَالَ صَاحِبُ الْمَدْخَلِ يَنْبَغِي لِلْعَالِمِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا اُضْطُرَّ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ فِي السُّوقِ أَنْ يُبَاشِرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ السُّنَّةُ، وَيَبْرَأَ مِنْ الْكِبْرِ وَإِنْ عَاقَهُ عَائِقٌ اسْتَنَابَ مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِالْأَحْكَامِ فِي ذَلِكَ انْتَهَى الْمُرَادُ مِنْهُ وَأَرَادَ صَاحِبُ الْمَدْخَلِ بِقَوْلِهِ يَجِبُ أَيْ يَتَأَكَّدُ (قَوْلُهُ وَإِلَّا) أَيْ بِأَنْ لَمْ يَقْدِرْ فَغَيْرُهُ بِمُشَاوَرَتِهِ أَيْ مِمَّنْ يَعْرِفُ الْأَحْكَامَ وَلَا يَتَسَاهَلُ (قَوْلُهُ وَلَا يَتَّكِلُ إلَخْ) مُرْتَبِطٌ بِقَوْلِهِ وَإِلَّا فَغَيْرُهُ أَيْ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ بِأَنْ عَاقَهُ عَائِقٌ فَغَيْرُهُ بِمُشَاوَرَتِهِ وَلَا يَتَّكِلُ فَالْعِبَارَةُ صَحِيحَةٌ (قَوْلُهُ لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ) هَذِهِ الْعِلَّةُ لَا تَظْهَرُ؛ لِأَنَّ مَا قَالَهُ فِي قَوْلِهِ لَا يَتَّكِلُ إلَخْ ظَاهِرٌ وَثَابِتٌ سَوَاءٌ غَلَبَ الْفَسَادُ أَمْ لَا (قَوْلُهُ وَعُمُومُهُ) بِمَعْنَى غَلَبَتِهِ (قَوْلُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ) أَرَادَ بِهِ زَمَنَهُ وَمَا شَابَهَهُ مِمَّا قَبْلَهُ مِنْ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي اخْتَلَّ نِظَامُ الدِّينِ فِيهَا (قَوْلُهُ وَذَلِكَ مُفْضٍ) أَيْ وَالْوُصُولُ عَلَى وَجْهِ الرِّضَا مُفْضٍ (قَوْلُهُ وَالْمُقَاتَلَةِ) مُغَايِرَانِ أُرِيدَ بِالْمُنَازَعَةِ الْمُخَالَفَةُ بِالْأَقْوَالِ (قَوْلُهُ وَالْحِيَلِ) كَأَنْ يُكْرِمَهُ لِأَجْلِ أَنْ يَبِيعَ لَهُ بِغَبَنٍ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ وَحِكْمَتُهُ أَيْ حِكْمَةُ الْبَيْعِ الشَّرْعِيِّ وَالْبَيْعُ مَعَ الْحِيَلِ بَيْعٌ غَيْرُ شَرْعِيٍّ (قَوْلُهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ) أَيْ كَالْغَصْبِ، (قَوْلُهُ وَهُوَ لُغَةً) أَيْ فِي اللُّغَةِ (قَوْلُهُ مَصْدَرُ بَاعَ) أَيْ مَدْلُولُ مَصْدَرِ بَاعَ وَهُوَ الْإِخْرَاجُ وَالْإِدْخَالُ (قَوْلُهُ يُطْلَقُ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ) أَيْ يُطْلَقُ عَلَى الْإِخْرَاجِ وَالْإِدْخَالِ عَلَى طَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ وَالشِّرَاءُ يُمَدُّ وَيُقْصَرُ كَمَا فِي ك وَلَوْ عَبَّرَ بِهِ لَكَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عِنْدَهُ شَامِلٌ لِلْإِدْخَالِ وَالْإِخْرَاجِ (قَوْلُهُ كَالْقُرْءِ إلَخْ) أَيْ فَهُوَ مُشْتَرَكٌ لَفْظًا بَيْنَ الضِّدَّيْنِ وَهُمَا الْحَيْضُ وَالطُّهْرُ (قَوْلُهُ وَهِيَ أَفْصَحُ) أَيْ مِنْ الْأُولَى وَعَلَى تِلْكَ اللُّغَةِ فَلَيْسَ الْبَيْعُ مِنْ الْأَضْدَادِ (قَوْلُهُ تَقْرِيبًا لِلْفَهْمِ) بِخِلَافِهِ عَلَى اللُّغَةِ الْأُولَى فَلَيْسَ فِيهِ تَقْرِيبٌ لِلْفَهْمِ لِاحْتِيَاجِ الْمُشْتَرَكِ فِي فَهْمِ الْمُرَادِ مِنْهُ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ إلَى قَرِينَةٍ، (قَوْلُهُ وَأَمَّا شَرَى فَيُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى بَاعَ) ذَوْقُ الْعِبَارَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى اشْتَرَى وَهُوَ الْأَصْلُ وَبِمَعْنَى بَاعَ وَهُوَ خِلَافُ الْأَصْلِ، وَلَوْ أَرَادَ أَنَّهُ لَا مَعْنَى لَهُ إلَّا بَاعَ لَعَبَّرَ بِقَوْلِهِ، وَأَمَّا شَرَى فَهُوَ بِمَعْنَى بَاعَ وَفِي الْقَامُوسِ إنَّ شَرَى يُسْتَعْمَلُ بِالْمَعْنَيَيْنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute