أَعْتَذِرُ الْإِنْشَاءُ أَيْ أَسْأَلُ قَبُولَ الْعُذْرِ وَالْخَبَرُ أَيْ أَبُثُّ اعْتِذَارِي وَأَقُولُ لِذَوِي الْأَلْبَابِ، وَقَبُولُ الْعُذْرِ مِنْ الْمُعْتَذِرِينَ شَأْنُ كِرَامِ النَّاسِ وَالْكِرَامُ أَهْلُ التَّقْوَى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: ١٣] وَهُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الرعد: ١٩] {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [المائدة: ١٠٠] وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ الْمُنْذَرِينَ وَالْمُبَشِّرِينَ وَإِنَّمَا خَصَّصَ ذَوِي الْأَلْبَابِ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ وَانْظُرْ تَعْرِيفَ الْعَقْلِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِمَرْجِعِ الْإِشَارَةِ فِي شَرْحِنَا الْكَبِيرِ.
(ص) وَأَسْأَلُ بِلِسَانِ التَّضَرُّعِ وَالْخُشُوعِ وَخِطَابِ التَّذَلُّلِ
ــ
[حاشية العدوي]
قَوْلُهُ أَيْ أَسْأَلُ قَبُولَ الْعُذْرِ) فَالْعُذْرُ وَالِاعْتِذَارُ شَيْءٌ وَاحِدٌ (قَوْلُهُ أَيْ أَبُثُّ) أَيْ أُظْهِرُ لَا يَخْفَى أَنَّهُ يَكُونُ إخْبَارًا عَنْ شَيْءٍ حَاصِلٍ بِهَذَا اللَّفْظِ كَمَا فِي قَوْلِهِ أَتَكَلَّمُ مُخْبِرًا عَنْ تَكَلُّمٍ حَصَلَ بِهَذَا اللَّفْظِ (قَوْلُهُ وَأَقُولُ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ (قَوْلُهُ وَالْكِرَامُ أَهْلُ التَّقْوَى) أَتَى بِهِ دَفْعًا لِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّهُمْ الْبَاذِلُونَ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانُوا عُصَاةً (قَوْلُهُ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: ١٣] دَلِيلٌ لِقَوْلِهِ وَالْكِرَامُ أَهْلُ التَّقْوَى (قَوْلُهُ وَهُمْ) أَيْ أَهْلُ التَّقْوَى (قَوْلُهُ أُولُو الْأَلْبَابِ) أَيْ أَصْحَابُ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ.
(قَوْلُهُ {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الرعد: ١٩] أَتَى بِهَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ أَهْلَ التَّقْوَى أُولُو الْأَلْبَابِ؛ لِأَنَّهُ أَسْنَدَ التَّذَكُّرَ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَطَلَبَ التَّقْوَى مِنْهُمْ وَلَا يَتَذَكَّرُ إلَّا الْمُتَّقِي وَلَا يُخَاطَبُ بِالتَّقْوَى خِطَابًا نَافِعًا إلَّا أَهْلُ التَّقْوَى فَإِذَنْ يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [الطلاق: ١٠] دُومُوا عَلَى التَّقْوَى أَوْ زِيدُوا فِي التَّقْوَى لِمَا عُلِمَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ لَهَا مَرَاتِبَ ثَلَاثَةً فَتَدَبَّرْ (قَوْلُهُ وَلَا أَحَدَ أَحَبَّ إلَيْهِ الْعُذْرُ مِنْ اللَّهِ) أَحَدَ اسْمُهَا وَأَحَبَّ صِفَتُهُ وَالْعُذْرُ فَاعِلٌ بِأَحَبَّ وَإِلَيْهِ حَالٌ مِنْ الْعُذْرُ وَأَحَبَّ بِمَعْنَى مَحْبُوبِيَّةً وَمِنْ بِمَعْنَى بَدَلَ نَحْوُ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ أَيْ بَدَلَ الْآخِرَةِ فَالْمَعْنَى لَا أَحَدَ مَوْصُوفٌ بِأَنَّ الْعُذْرَ أَحَبُّ الْأَشْيَاءِ إلَيْهِ بَدَلَ اللَّهِ أَيْ غَيْرَ اللَّهِ أَيْ بَلْ اللَّهُ هُوَ الْمَوْصُوفُ بِأَنَّ الْعُذْرَ أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ حُبًّا إلَيْهِ أَيْ مَحْبُوبِيَّةً لَهُ فَظَهَرَ أَنَّ مِنْ خَبَرُ لَا (قَوْلُهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ) أَيْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَحَبَّ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَوْلَى فَاعِلٌ مُخْتَارٌ مَالِكٌ لِلْخَلْقِ بِأَجْمَعِهِمْ فَلَوْ عَذَّبَ الْخَلْقَ بِدُونِ إرْسَالِ رُسُلٍ لَمَا لَحِقَهُ لَوْمٌ؛ لِأَنَّهُ الْمَالِكُ الْحَقِيقِيُّ يَتَصَرَّفُ فِي مُلْكِهِ كَيْفَ شَاءَ فَبَعْثَتُهُ الرُّسُلَ لِلْخَلْقِ وَلَمْ يُعَذِّبْهُمْ إلَّا بِالْمُخَالَفَةِ بَعْدَهَا قَطْعًا لِعُذْرِهِمْ مَعَ أَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُمْ وَلَوْ لَمْ يُرْسِلْ رُسُلًا لَمَا تَقَدَّمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا أَحَدَ أَحَبَّ مِنْ اللَّهِ لِقَبُولِ الْعُذْرِ (قَوْلُهُ: لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ) عَطْفُ الرَّحْمَةِ عَلَى مَا قَبْلَهُ تَفْسِيرٌ أَيْ وَأَهْلُ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمَوَاهِبَ وَالْمَزَايَا مِنْ اللَّهِ وَأَنَّ مَقَامَ الْعَبْدِ حَيْثُ أَقَامَهُ فَيَلْتَمِسُونَ لِلْأَئِمَّةِ وَلَا يَتَّبِعُونِ الْهَوَى.
(قَوْلُهُ وَانْظُرْ تَعْرِيفَ الْعَقْلِ إلَخْ) قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الْإِرْشَادِ هُوَ عُلُومٌ ضَرُورِيَّةٌ بِهَا يَتَمَيَّزُ الْعَاقِلُ مِنْ غَيْرِهِ إذَا اتَّصَفَ بِهِ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِوُجُوبِ الْوَاجِبَاتِ وَاسْتِحَالَةِ الْمُسْتَحِيلَاتِ وَجَوَازِ الْجَائِزَاتِ إلَى آخَرِ كَلَامِهِ الطَّوِيلِ وَأَخْصَرَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ السَّنُوسِيُّ أَنَّهَا مَعْرِفَةُ الْوَاجِبِ وَالْجَائِزِ وَالْمُسْتَحِيلِ فَالْوَاجِبُ هُوَ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الِانْتِفَاءَ وَالْمُسْتَحِيلُ هُوَ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الثُّبُوتَ وَالْجَائِزُ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ الثُّبُوتَ وَالِانْتِفَاءَ وَكُلُّ عَاقِلٍ مَرْكُوزٍ فِي قَلْبِهِ ذَلِكَ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ التَّعْبِيرِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُدْرِكُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ هُنَاكَ شَيْئًا لَا يَقْبَلُ الثُّبُوتَ وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مَعْنَى الْمُسْتَحِيلِ وَيُدْرِكُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّ هُنَاكَ شَيْئًا لَا يَقْبَلُ الِانْتِفَاءَ وَذَلِكَ مَعْنَى الْوَاجِبِ وَيَعْلَمُ أَنَّ هُنَاكَ شَيْئًا يَقْبَلُهُمَا، وَهُوَ الْجَائِزُ وَقِيلَ إنَّهُ نُورٌ رُوحَانِيٌّ بِهِ تُدْرِكُ النَّفْسُ الْعُلُومَ الضَّرُورِيَّةَ وَالنَّظَرِيَّةَ وَابْتِدَاءَ وُجُودِهِ عِنْدَ اجْتِنَانِ الْوَلَدِ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَنْمُو إلَى أَنْ يَكْمُلَ عِنْدَ الْبُلُوغِ قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ قَائِلًا إنَّ تَفْسِيرَهُ بِذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ قَالَ مُحَشِّي تت اجْتِنَانُ بِالْجِيمِ وَالنُّونِ بَعْدَ التَّاءِ أَيْ حِينَ يَكُونُ جَنِينًا وَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْقَامُوسِ مِنْ أَنَّ كَمَالَهُ عِنْدَ الْبُلُوغِ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ كَمَالَهُ عِنْدَ الْأَرْبَعِينَ؛ وَلِذَلِكَ بُعِثَتْ الْأَنْبِيَاءُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ اهـ.
(قَوْلُهُ وَمَرْجِعُ الْإِشَارَةِ) لَا يَخْفَى أَنَّهُ ذَكَرَ فِي شَرْحِهِ الْكَبِيرِ كَلَامًا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ قَابِلٌ لِلْبَحْثِ وَفِيهِ تَطْوِيلٌ فَنَذْكُرُ لَك لُبَّ مَا قَالُوهُ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ مُسَمَّى الْكُتُبِ الْأَلْفَاظُ الْمَخْصُوصَةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَعَانِي الْمَخْصُوصَةِ، وَهِيَ أَعْرَاضٌ تَنْقَضِي بِمُجَرَّدِ النُّطْقِ بِهَا فَالْإِشَارَةُ إذَنْ لِمَا فِي الذِّهْنِ تَقَدَّمَتْ الْخُطْبَةُ عَلَى التَّأْلِيفِ أَوْ تَأَخَّرَتْ وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ أَسْمَاءَ الْكُتُبِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ قَبِيلِ عَلَمِ الْجِنْسِ مَعَ أَنَّ مَا فِي ذِهْنِ الْمُصَنِّفِ جُزْئِيٌّ شَخْصِيٌّ وَقَدْ تَقَرَّرَ أَيْضًا أَنَّ مَا فِي الذِّهْنِ مُجْمَلٌ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ وَمُسَمَّى الْكُتُبِ الْأُمُورُ الْمُفَصَّلَةُ فَإِذَنْ يَحْتَاجُ لِتَقْدِيرِ مُضَافَيْنِ أَيْ مُفَصِّلُ نَوْعِ هَذِهِ أَوْ نَوْعُ مُفَصِّلِ هَذِهِ، وَأَمَّا إنْ قُلْنَا إنَّ أَسْمَاءَ الْكُتُبِ مِنْ قَبِيلِ عَلَمِ الشَّخْصِ فَلَا يَحْتَاجُ لِتَقْدِيرِ نَوْعٍ وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ لِتَقْدِيرِ مُفَصِّلٍ، فَإِنْ قُلْنَا مَا فِي الذِّهْنِ مُفَصِّلٌ فَيَحْتَاجُ لِتَقْدِيرِ نَوْعٍ فَقَطْ عَلَى جَعْلِهَا مِنْ عَلَمِ الْجِنْسِ وَلَا يَحْتَاجُ لِتَقْدِيرٍ أَصْلًا عَلَى تَقْدِيرِ جَعْلِهَا مِنْ عَلَمِ الشَّخْصِ فَتَدَبَّرْ (قَوْلُهُ وَأَسْأَلُ إلَخْ) قَضِيَّةُ حَلِّ الشَّارِحِ أَنْ يَكُونَ وَأَسْأَلُ مُتَعَلِّقًا بِمَفْعُولٍ مُعَيَّنٍ، وَهُوَ ضَمِيرُ ذَوِي الْأَلْبَابِ السَّابِقُ ذِكْرُهُ وَحَذَفَهُ اخْتِصَارًا أَوْ اقْتِصَارًا لِقَرِينَةِ تَقَدُّمِ ذِكْرِهِمْ وَالْأَصْلُ وَأَسْأَلُهُمْ إلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ لَا يُعَلَّقَ بِمَفْعُولٍ تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ لِيَعُمَّ كُلَّ مَنْ يَصْلُحُ مِنْهُ السُّؤَالُ مِنْ النَّاظِرِينَ فِي كِتَابِهِ وَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَأَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ النَّاظِرِينَ فِيهِ يَنْظُرُونَهُ بِعَيْنِ الْكَمَالِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَمَا كَانَ إلَخْ يُقَوِّي إرَادَتَهُ سُؤَالَ النَّاظِرِينَ فِي كِتَابِهِ أَفَادَهُ فِي ك وَأَفَادَ أَيْضًا أَنَّ التَّضَرُّعَ وَالْخُشُوعَ وَالتَّذَلُّلَ وَالْخُضُوعَ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ أَوْ كَالْمُتَرَادِفَةِ.
(قَوْلُهُ بِلِسَانِ التَّضَرُّعِ إلَخْ) فِيهِ اسْتِعَارَةٌ بِالْكِنَايَةِ حَيْثُ شَبَّهَ تَضَرُّعَهُ وَخُشُوعَهُ بِإِنْسَانٍ وَإِثْبَاتُ اللِّسَانِ تَخْيِيلٌ أَوْ يُقَدَّرُ مُضَافٌ أَيْ بِلِسَانِ ذِي التَّضَرُّعِ وَالْخُشُوعِ أَوْ يُؤَوَّلُ التَّضَرُّعُ وَالْخُشُوعُ بِالْمُتَضَرِّعِ الْخَاشِعِ وَكَذَا يُقَالُ فِيمَا بَعْدُ قَالَ فِي ك وَلَا يَظْهَرُ كَبِيرُ فَرْقٍ لِإِضَافَةِ اللِّسَانِ لِلتَّضَرُّعِ وَالْخُشُوعِ وَالْخِطَابُ لِلتَّذَلُّلِ وَالْخُضُوعُ مِنْ قُرْبِ مَعَانِي الْأَلْفَاظِ (قَوْلُهُ وَخِطَابُ التَّذَلُّلِ) الْخِطَابُ مَصْدَرُ خَاطَبَهُ بِالْكَلَامِ مُخَاطَبَةً
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute