للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَالتَّوَاضُعَ وَحُسْنَ الْخُلُقِ وَإِذَا جَمَعَ الْمُتَعَلِّمُ ثَلَاثًا تَمَّتْ النِّعْمَةُ عَلَى الْعَالِمِ الْعَقْلَ وَالْأَدَبَ وَحُسْنَ الْفَهْمِ فَمَنْ أَرَادَ الرِّفْعَةَ فَلْيَتَوَاضَعْ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْعِزَّةَ لَا تَقَعُ إلَّا بِقَدْرِ النُّزُولِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَاءَ لَمَّا نَزَلَ إلَى أَصْلِ الشَّجَرَةِ صَعِدَ إلَى أَعْلَاهَا فَكَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَهُ مَا صَعِدَ بِكَ هَاهُنَا أَعْنِي فِي رَأْسِ الشَّجَرَةِ وَأَنْتَ قَدْ نَزَلْت فِي أَصْلِهَا فَكَأَنَّ لِسَانَ حَالِهِ يَقُولُ مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ.

(ص) ، ثُمَّ أَعْتَذِرُ لِذَوِي الْأَلْبَابِ مِنْ التَّقْصِيرِ الْوَاقِعِ فِي هَذَا الْكِتَابِ (ش) لِمَا أَعْلَمُ بِمَا سَأَلَ مِنْ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِمَا يُرِيدُهُ مِنْ الْخَلْقِ، وَهُوَ أَنَّهُ اعْتَذَرَ إلَى ذَوِي الْأَلْبَابِ أَيْ أَصْحَابِ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ مِنْ التَّقْصِيرِ الْوَاقِعِ مِنْهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَمَعْنَى أَعْتَذِرُ أَيْ أَطْلُبُ مِنْهُمْ أَنْ يَعْذِرُونِي أَيْ يَقْبَلُوا اعْتِذَارِي إلَيْهِمْ فَيَجُوزُ فِي

ــ

[حاشية العدوي]

الطَّلَبَةِ وَأَحْوَالِهِمْ الَّتِي تَقْتَضِي التَّغْيِيرَ وَقَوْلُهُ وَالتَّوَاضُعَ أَيْ لِلْعِبَادِ أَوْ الطَّلَبَةِ؛ لِأَنَّ بِالتَّوَاضُعِ يُقْبَلُ عَلَيْهِ لِلتَّعْلِيمِ وَالْأَخْذِ عَنْهُ وَبِالْكِبْرِ تَنْفِرُ النَّاسُ مِنْهُ وَمِنْ عِلْمِهِ (فَائِدَةٌ) قِيلَ التَّوَاضُعُ الِانْكِسَارُ وَالتَّذَلُّلُ وَقِيلَ هُوَ خَفْضُ الْجَنَاحِ لِلْخَلْقِ وَلِينِ الْجَانِبِ لَهُمْ وَقَالَ الْفُضَيْلُ يَخْضَعُ لِلْحَقِّ وَيَنْقَادُ لَهُ وَيَقْبَلُهُ مِمَّنْ قَالَهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا شَرِيفًا أَوْ وَضِيعًا حُرًّا أَوْ عَبْدًا ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى (قَوْلُهُ وَحُسْنَ الْخُلُقِ) فَقَدْ نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَجْلَانَ مَا شَيْءٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ عَالِمٍ مَعَهُ حِلْمٌ إنْ تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِعِلْمٍ، وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ بِحِلْمٍ يَقُولُ الشَّيْطَانُ إنَّ سُكُوتَهُ عَلَيَّ أَشَدُّ مِنْ كَلَامِهِ اهـ.

وَمِنْ ذَلِكَ يُسْتَفَادُ أَنَّ الْأَوْلَى لِلْعَالِمِ أَنْ يَكُونَ قَلِيلَ الْكَلَامِ جِدًّا إلَّا فِيمَا يُعْنِي وَمِنْ حِكَمِ إمَامِنَا نَفَعَنَا اللَّهُ بِهِ مَنْ صَدَقَ فِي حَدِيثِهِ مُتِّعَ بِعَقْلِهِ وَلَمْ يُصِبْهُ مَا يُصِيبُ النَّاسَ مِنْ الْهَرَمِ وَالْخَرَفِ وَقَالَ لَا يَصْلُحُ الرَّجُلُ حَتَّى يَتْرُكَ مَا لَا يَعْنِيهِ وَيَشْتَغِلُ بِمَا يَعْنِيهِ وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ يُوشِكُ أَنْ يُفْتَحَ لَهُ قَلْبُهُ وَقَالَ كَثْرَةُ الْكَلَامِ تَمُجُّ الْعَالِمَ وَتُذِلُّهُ وَتُنْقِصُهُ وَمَنْ عَمِلَ هَذَا ذَهَبَ بَهَاؤُهُ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ إلَّا فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَكَانَ يَقُولُ نِعْمَ الرَّجُلُ فُلَانٌ لَوْلَا أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامِ شَهْرٍ فِي يَوْمٍ وَقَالَ طَلَبُ الرِّزْقِ فِي شُبْهَةٍ خَيْرٌ مِنْ الْحَاجَةِ إلَى النَّاسِ وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَوَاضُعَ الْعَالِمِ لِلَّهِ وَصَبْرَهُ وَحُسْنَ خُلُقِهِ يُحَصِّلُ نَفْعَ الطَّالِبِ بَلْ حُسْنُ الْخُلُقِ مُسْتَلْزِمٌ لِلصَّبْرِ بَلْ وَلِلتَّوَاضُعِ فَهُوَ مَعْنًى جَامِعٌ.

(قَوْلُهُ الْعَقْلَ) أَيْ كَمَالَ الْعَقْلِ وَمِنْ لَوَازِمِهِ الْأَدَبُ فَعَطَفَ الْأَدَبَ عَلَيْهِ مِنْ عَطْفِ اللَّازِمِ عَلَى الْمَلْزُومِ (قَوْلُهُ وَالْأَدَبَ) أَيْ التَّخَلُّقَ بِالْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ مِنْ امْتِثَالِهِ أَمْرَ شَيْخِهِ وَرُؤْيَتِهِ إيَّاهُ بِعَيْنِ التَّعْظِيمِ وَعَدَمِ اعْتِرَاضِهِ عَلَيْهِ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَمِنْ اعْتِقَادِهِ صَلَاحَ شَيْخِهِ وَإِذَا رَأَى مَا يُخَالِفُ ظَاهِرَ الشَّرْعِ أَوَّلَهُ بِتَأْوِيلٍ حَسَنٍ وَقَدْ وَرَدَ عَنْ الثِّقَاتِ قِيرَاطٌ مِنْ الْأَدَبِ خَيْرٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ قِيرَاطًا مِنْ الْعِلْمِ وَاجْعَلْ أَدَبَك دَقِيقًا وَعِلْمَك مِلْحًا، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ مُرَادَهُ بِالْعَقْلِ الْعَقْلُ الْكَامِلُ فَإِذَنْ بَيْنَ الْعَقْلِ وَالْأَدَبِ التَّلَازُمُ (قَوْلُهُ وَحُسْنَ الْفَهْمِ) أَيْ وَالْفَهْمِ الْحَسَنِ الْحَاصِلِ بِسُهُولَةِ الْوَاقِفِ عَلَى الْحَقِيقَةِ (قَوْلُهُ فَمَنْ أَرَادَ الرِّفْعَةَ) أَيْ دُنْيَا وَأُخْرَى انْتِقَالٌ قَصَدَ بِهِ إرْشَادَ النَّاسِ عُمُومًا وَلِأَهْلِ الْعِلْمِ خُصُوصًا (قَوْلُهُ فَلْيَتَوَاضَعْ لِلَّهِ تَعَالَى) فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَتَعَلَّمُوا لِلْعِلْمِ السَّكِينَةَ وَالْوَقَارَ وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تَعَلَّمُونَ مِنْهُ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ تَتَعَلَّمُونَ مِنْهُ فَحُذِفَتْ إحْدَى التَّاءَيْنِ لِلتَّخْفِيفِ فَإِنَّ الْعِلْمَ لَا يُنَالُ إلَّا بِالتَّوَاضُعِ وَإِلْقَاءِ السَّمْعِ وَتَوَاضُعُ الطَّالِبِ لِشَيْخِهِ رِفْعَةٌ وَذُلُّهُ لَهُ عِزٌّ وَخُضُوعُهُ لَهُ فَخْرٌ، ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ التَّوَاضُعَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْوَالِدِ وَالشَّيْخِ وَالسُّلْطَانِ وَاجِبٌ وَلِلْمُسْلِمِينَ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُمْ مُسْلِمِينَ مَنْدُوبٌ وَلِأَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ حَيْثُ دُنْيَاهُمْ حَرَامٌ كَمَا أَفَادَهُ الْعُلَمَاءُ.

فَإِذَنْ قَوْلُهُ لِلَّهِ لَا مَفْهُومَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَفْهُومُ لَقَبٍ أَوْ يُجَابُ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ مُتَوَاضِعًا لِلَّهِ التَّوَاضُعُ لِهَؤُلَاءِ؛ لِأَنَّ رَبَّنَا أَمَرَ بِالتَّوَاضُعِ لَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَتَوَاضَعْ لَهُمْ فَلَا يَكُونُ مُتَوَاضِعًا لِلَّهِ فَتَدَبَّرْ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ اللَّامَ فِي قَوْلِهِ لِلَّهِ لِلتَّعْلِيلِ أَيْ فَلْيَتَوَاضَعْ لِلْعِبَادِ وَلِلَّهِ لِأَجْلِ اللَّهِ (قَوْلُهُ صَعِدَ) فِي الْمِصْبَاحِ صَعِدَ فِي السُّلَّمِ وَالدَّرَجَةِ يَصْعَدُ مِنْ بَابِ تَعِبَ صُعُودًا اهـ.

(قَوْلُهُ مَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ إلَخْ) اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ أَوْ لِلتَّعْدِيَةِ

١ -

(قَوْلُهُ: ثُمَّ أَعْتَذِرُ) إنَّمَا عَطَفَ الْمُؤَلِّفُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ بِثُمَّ؛ لِأَنَّهُ طَلَبٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعَاظَمَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا فَهَرَبَ مِنْ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ لِمَا تُوهِمُهُ مِنْ التَّشْرِيكِ امْتِثَالًا لِمَا فِي الصَّحِيحِ «لَا يَقُلْ أَحَدٌ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ فُلَانٌ وَلَكِنْ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ مَا شَاءَ فُلَانٌ» لِمَا تُعْطِيهِ مِنْ تَرَاخِي الثَّانِي عَنْ الْأَوَّلِ وَعَطَفَ الَّتِي قَبْلَهَا بِالْوَاوِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ اللَّهِ وَاَلَّتِي بَعْدَ هَذِهِ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْعَبِيدِ وَلِذَوِي الْأَلْبَابِ وَمِنْ التَّقْصِيرِ مُتَعَلِّقَانِ بِأَعْتَذِرُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ اللَّامَ لِلِانْتِهَاءِ وَمِنْ لِلتَّعْلِيلِ ك (قَوْلُهُ التَّقْصِيرِ) هُوَ عَدَمُ بَذْلِ الْوُسْعِ فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ أَيْ مِنْ خَلَلِ التَّقْصِيرِ أَوْ عَيْبِهِ أَوْ لَوَاحِقِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ إنْ كَانَ وَحَاشَاهُ قَائِمٌ بِهِ لَا بِالْكِتَابِ، ثُمَّ الْمُرَادُ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ تَقْصِيرٌ وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ لِلشَّخْصِ ارْتِكَابُ الْخَطَأِ، ثُمَّ يَعْتَذِرُ عَنْهُ وَقَوْلُهُ الْوَاقِعِ فِيهِ كَمَالُ هَضْمِ النَّفْسِ حَيْثُ نَزَّلَ ظَنَّ التَّقْصِيرِ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ الْمُحَقَّقِ الْوُقُوعِ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ وَنَقَلَ بَعْضُهُمْ عَنْ الشَّيْخِ الْفَقِيهِ الْفَاضِلِ نَاصِرِ الدِّينِ الْإِسْحَاقِيِّ الْمِصْرِيِّ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ الْمُؤَلِّفِ أَنَّ هَذَا الْمُخْتَصَرَ إنَّمَا لَخَصَّ مِنْهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ إلَى النِّكَاحِ وَبَاقِيهِ وُجِدَ فِي تَرِكَتِهِ مُفَرَّقًا فِي أَوْرَاقٍ مُسَوَّدَةٍ فَجَمَعَهُ أَصْحَابُهُ وَضَمُّوهُ إلَى مَا لُخِّصَ فَكَمُلَ وَنَفَعَ اللَّهُ بِهِ ك.

(قَوْلُهُ أَيْ أَصْحَابِ) ، فَإِنْ قُلْت لِمَ عَدَلَ عَنْ أَصْحَابِ إلَى ذَوِي قُلْت إنَّمَا عَدَلَ إلَيْهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى عِظَمِ مَدْخُولِهَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: ٢٤٣] إنَّ إدْخَالَ ذُو يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ فَضْلِهِ وَكَثْرَتِهِ وَنَحْوُهُ لِابْنِ الْخَطِيبِ (قَوْلُهُ الْعُقُولِ الرَّاجِحَةِ) اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْقَامُوسِ فَسَّرَ اللُّبَّ بِالْعَقْلِ وَيُمْكِنُ تَمْشِيَةُ الْمُصَنِّفِ عَلَيْهِ وَيَكُونُ الْوَصْفُ بِالرُّجْحَانِ أَخَذَهُ الشَّارِحُ مِنْ جَعْلِ أَلْ فِي الْأَلْبَابِ لِلْكَمَالِ وَصَرِيحُ كَلَامِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ اللُّبَّ الْعَقْلُ الرَّاجِحُ فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الْعَقْلِ فَيَكُونُ الْوَصْفُ بِالرُّجْحَانِ مِنْ تَمَامِ تَفْسِيرِ اللُّبِّ لَا مِنْ جَعْلِ أَلْ لِلْكَمَالِ (قَوْلُهُ فَيَجُوزُ إلَخْ) لَا يَخْفَى أَنَّ الَّذِي يَتَفَرَّعُ عَلَى الْحَلِّ الْمَذْكُورِ إنَّمَا هُوَ الْإِنْشَائِيَّةُ لَا الْخَبَرِيَّةُ الْمُشَارُ لَهَا بِقَوْلِهِ وَالْخَبَرُ

<<  <  ج: ص:  >  >>