لم يعلم وبين المجادلة التي مقصودها الدعاء إلى ما قد علم. والأول يدعو إلى حق مطلق، والثاني يدعو إلى حق معين.
وعلى هذا فإذا عارضه المعترض بما هو دليل عند المستدل وحده فهو في المعنى مثل النقض بمذهب المستدل، فإن النقض معارضة في الدليل، كما أن المعارضة المطلقة معارضة في الحكم، وكأنه يقول: هذا الدليل الذي ذكرته موقوف باتفاق مني ومنك. أما عندك فلأنه معارض بهذا الدليل، وأما عندي فلتخلف مدلوله في صورة النزاع، ويقول له: هذا ليس بدليل سالم عندك، فأنت لا تعتقد صحته، فكيف تلزمني بمدلوله؟ والذي يقوله المستدل في دفع هذه المعارضة يقوله المعترض في دفع الاستدلال، ألا ترى أن المعترض لو عارض بدليل عنده أو نقض بصورة يعقدها فهما سواء؟ وفي ذلك قولان يختار أصحابنا منعه. وأما المستدل إذا استدل بما هو دليل عند مناظره فقط فهو في الحقيقة سائل معارض لمناظره بمذهبه، وهو سؤال وارد على مذهبه وهو استدلال على فساد أحد الأمرين إما دليله أو مذهبه، فينبغي أن يعرف وجوه الأدلة والأسئلة، وهذا في الحقيقة استدلال على فساد قول المنازع بما لا يستلزم صحة قول المستدل، بمنزلة إظهار تناقضه، وهو أحد مقاصد الجدل.
قال -يعني القاضي-: لأن إلزامه يكون محتجا بما لا يقول به. ومن وجه آخر حررته أن بهذا النقض يتحقق اتفاقهما على العلة، أما على أصل المعلل فبصورة الإلزام أما على أصل خصمه فبمحل النزاع، وأما في غير ذلك فقد اتفقا على اطراح الأصل الملزم، أما أحدهما فلا يراه دليلا بحال، وأما الآخر فلأنه لما خالفه دل على أنه قد ترك لدليل عنده أقوى منه، وإذا حصل الاتفاق على تركه ههنا بطل إلزامه وكذلك ذكر القاضي وأبو الخطاب أن للمستدل أن ينقض علة السائل لأنه تبين له أنها فاسدة عنده، فلا يجوز أن يحتج بما هو فاسد عنده.