للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأسواقها التجارية الطريفة، واستجلاء أمثلة مختلف أمم الشرق في بضع ساعات، ففيها يرى الفرس ذوو القلانس الفروية والخناجر الزنارية، ويرى السوريون ذوو الحُلل المخططة والكوفيات والعقل الوبرية، وترى النساء العربيات ذوات المآزر البيض التي تلمع عيونهن المتوقدة من خلالها، ويرى الدمشقيون ذوو الطرابيش الحمر أو العمائم البيض والألبسة الحريرية المخططة بخطوط بيض وسود والمشدودة بزنانير، ويرى حجاج البيت الحرام ذوو الثياب الرثة، ويرى قواسو القناصل ذوو السياط والملابس الموشاة الزرق والخطوات الموزونة، ويرى الموظفون العثمانيون ذوو الأردية الرسمية القاتمة، ويرى فرسان الدروز ذوو العجب المنطقون بالسلاح والراكبون عتاق الخيل التي تعلوها سروج جلدية قرمزية مزينة بقطع لامعة من الذهب والفضة، وترى قطر الجمال يحرسها تجار آتون من كرمان والأناضول وشواطئ الفرات، ويرى الأكراد والأعراب والأرمن والموارنة واليهود وروم الأرخبيل، ويرى في هذه الأخلاط اختلاف في الألوان كالذي يرى في قوس قزح، ويرى فيها ذوو البياض الناصع وذوو السواد الحالك وذوو الألوان التي بين اللونين.

وقد خيل إلي، حينما كنت جالساً على متكأ في إحدى القهوات العربية بدمشق، وكنت أتأمل أولئك الناس من خلال دخان نارجيلتي، أي من خلال هذا المنظار السحري الغريب، أن قدرة ساحرة نقلتني من فوري، ولساعة، إلى بيئة حاوية لأمم آسية في غابر الأزمان.

أجل، رأيت، على ما يحتمل، منظراً ممنوعاً كذلك على الجسر الممتد من غلطة إلى الضفة الأخرى من القرن الذهبي في الآستانة، ولكن العنصر الأوربي هو الغالب هنالك مقداراً فمقداراً، ومن ثم أرى أن الشرق عاد لا يتجلى وحده في الآستانة مع ما فيها من الأمثلة المتباينة لمختلف شعوب العالم.

ويستعذب علماء الآثار وهواة التحف ورجال الفن طول الإقامة بدمشق؛ لما يجدون فيها من بقايا المباني ما يتطلب وصفة مجلداً ضخماً، وما يخشى أن يزول بعد زمن قليل لتداعيه يوماً بعد يوم، ويرى في كل خطوة من ضاحية الميدان الواقعة على مدخل طريق مكة أنقاض مساجد وعيون وأبنية أخرى ترجع إلى ما قبل مئتي سنة أو ثلاثمائة سنة، وتشتمل على ضروب من الزينة القديمة وفق تقاليد العرب، ويشاهد في تلك الآثار أثر للفن الفارسي غير قليل.

<<  <   >  >>