وإذ لم يكن للمسلمين مساجد في مصر، وإذ زاد عدد من أسلم من النصارى، أقام عمرو بن العاص مسجداً جميلاً على طراز الحرم المكي، ولا يزال المسجد الشهير الذي أنشأه قائماً مع عدم اكتراث الحكومة المصرية لتصدعه.
ولم يكتف عمرو بن العاص بفتح مصر الدنيا، بل زحف بجيشه إلى بلاد النوبة، أي أوغل في إثيوبية الرومان القديمة على رأس عشرين ألف جندي، ولم تخرج هذه الحملة عن صفة الغزوات التي لا تؤدي إلى تنظيم جدي ما دام العرب لم يستقروا ببلاد النوبة استقرارا ثابتاً، بل اقتصروا على غزوها بين وقت وآخر، ومع ذلك فقد اعتنق النوبيون دين العرب ولغتهم كما اعتنقهما المصريون، واليوم إذا نظرت إلى النوبيين، وقد أتيح لي أن ألتقط صوراً فوتوغرافية لهم، رأيتهم قوماً مختلفي الألوان والملامح، فمنهم البيض الذين ينتسبون إلى عرب الحجاز، ومنهم سود الجلود، ومنهم من هم حسنو الخلقة ومن النوبيات من يشابهن مصريات العصر الفرعوني مشابهة عظيمة.
وغزا العرب، غير مرة بلاد الحبشة، أو القسم المجاور منها للبحر الأحمر على الأقل، فكان تأثيرهم فيها دون تأثيرهم في بلاد النوبة، فقد حافظ الأحباش، الذين انتحلوا النصرانية منذ القرن الرابع، على دينهم، وإن شاعت اللغة العربية بينهم وصاروا أخلاطاً من الآدميين.
والمدة بين فتح العرب لمصر في سنة ٦٣٩ م وفتح الترك لها سنة ١٥١٧ م نحو تسعمائة سنة تداولت حكم مصر في أثنائها تسع دول:
خضعت مصر لخلفاء المشرق (٦٣٩ م-٨٧٠ م)، ثم استقل ولاتها فأسسوا الدولة الطولونية (٨٧٠ م-٩٠٥ م)، ثم استرد خلفاء بني العباس سلطانهم عليها لمدة قصيرة (٩٠٥ م-٩٣٤ م)، ثم قامت فيها الدولة الأخشيدية القليلة الأهمية (٩٣٤ م-٩٧٢ م)، ثم استولى عليها الفاطميون (٩٧٢ م-١١٧١ م) الذين اشتملت دولتهم على شمال إفريقية وجزيرة سردينية وجزيرة صقلية وجزر البحر المتوسط وسورية فبلغت مصر في عهدهم ذروة الرقي والرخاء.
ثم أصاب خلفاء مصر مثل ما أصاب خلفاء بغداد، فقد استحوذ عليهم صنف من المرتزقة الذين عرفوا في التاريخ باسم المماليك، والذين تألف منهم حرسهم، والذين كانوا ينتسبون إلى الشعب الذي ينتسب إليه مرتزقة بغداد، ولم يتركوا لهم شيئاً من السلطة الحقيقية، فلما جاءت سنة ١٢٥٠ م استبد المماليك بالحكم نهائياً، وقد دام سلطانهم ٢٦٧ سنة.