كانوا في أشد الشوق إليه، وأخذوا معهم من الهدايا نسائج ثمينة وحللاً فاخرة وسروجاً ذهبية وفضية زاهية، وما لم تعرفه فرنسة قبل ذلك الزمن من البرتقال الناضج، قاصدين بذلك أن يرى بنو قومهم تلك المنتجات، وأن يتشوقوا إلى زيارة ذلك القطر الذي ينتج مثلها.
ولم يكد أولئك الفرسان النورمان يصلون إلى وطنهم حتى أخذوا يقضون على أهله من الأنباء ما ألهبوا به حميتهم، وما دفعوا به عدداً كبيراً منهم إلى غزو صقلية.
ذلك هو سبب غارة النورمان الذين كان همهم مصروفاً إلى النهب على حسب عادة ذلك الزمن أكثر مما هو مصروف إلى الدفاع عن دينهم، والذين تساوي الأغارقة والإيطاليون والعرب في نظرهم فصاروا يسلبون هؤلاء جميعاً بنشاط، والذين عدوا في خمسين سنة، أي حتى تم لهم الفتح، جزيرة صقلية وما جاورها من إيطالية بلاداً مباركة يمكن الاغتناء فيها بسهولة.
ولم ينشأ عن أعمال حماة الدين من النورمان سوى تخريب تلك البلاد بسرعة، ولم يلبث أهلوها أن اعترفوا بأن صداقة فرسان النورمان أشد وقراً من عداوة العرب، فاستغاثوا بالبابا لينقذهم من النورمان، ولم يجد إنذار البابا للنورمان نفعاً، فأرسل إلى قيصر القسطنطينية كتاباً يدلنا على سوء معاملة جيش نصراني في ذلك الزمن لبلاد صديقة استولى عليها.
وإليك كتاب البابا ليون التاسع الذي بعث به إلى قيصر القسطنطينية:
يكاد قلبي يتفطر من الأخبار المحزنة التي أنبأني بها رسل ابني أرجيروس، فعزمت على تطهير إيطالية من ظلم هؤلاء الأجانب النورمان المردة الأشرار الزنادقة الذين لا يحترمون شيئاً عند اندفاعهم، والذين يذبحون النصارى، ويسومونهم أشد العذاب غير راحمين ولا مفرقين بين الجنسين والأعمار، والذين ينهبون الكنائس ويحرقونها ويهدمونها، والذين يعدون كل شيء فريسة يباح سلبها، والذين أكثرت من لومهم على فسادهم، ومن إنذارهم بسوء أحكامي، وخوفتهم من سخط الرب، فلم يزدهم ذلك إلا عتواً، فكان أمرهم كقول الحكيم: إن من يتركه الرب يظل خبيثاً على الدوام، وإن من يكون مجنوناً لا يصلحه الكلام، ولهذا فقد عزمت على شهر الحرب الدينية المشروعة على هؤلاء الغرباء الثقلاء الذين أمعنوا في الظلم وصار أمرهم لا يطاق، وهذا دفاعاً عن الشعوب والكنائس.