حافظوا على إقطاعاتهم فيهما، وصاروا رقباء على ملوكهما الذين تورطوا فيها كثيراً، فاستفادوا من ذلك فقيدوا سلطة هؤلاء الملوك، ونحن إذا أنعمنا النظر فيما نشأ عن سير الحوادث من النتائج البعيدة بدا لنا أن أصول دستور إنكلترة السياسي المتين ترجع إلى حوادث الحروب الصليبية.
أجل، اشترك ثلاثة من قياصرة ألمانية في الحروب الصليبية، فلما مات فردريك الثاني الذي هو آخرهم كانت السلطة القيصرية من الأوهام، واشترك ثلاثة من ملوك فرنسة في الحروب الصليبية، فأما رحلة فليب أوغست فكانت قصيرة، وأما سلطة الأشراف في غياب لويس السابع ولويس التاسع فكانت غير خطرة لما ذكرنا، فسهل على نائب الملك سوجر والملكة بلانش أن يردا جماحها.
وكان لاصطراع أوربة وآسية تأثير كبير في التجارة أيضاً، فقد نشأ عن تجهيز الجيوش الكبيرة التي قذفت بها أوربة في الشرق في قرنين وتموينها ونقلها حركة عظيمة في التجارة البحرية؛ فاغتني بذلك أهل مرسيلية وبيزة وجنوة والبندقية على الخصوص، وبلغت بحرية مرسيلية درجة عظيمة من النمو استطاعت معه؛ في سنة ١١٩٠ م؛ أن تنقل إلى الأرض المقدسة جيش قلب الأسد ريكاردس.
ولم يقف نمو التجارة بعد طرد الصليبيين من آسية؛ فقد عقد أكثر جمهوريات إيطالية وأمراء المسلمين معاهدات تجارية؛ وكانت صلات البندقية التجارية الوثيقة بالمشرق سبب عظمتها، واطرد تقدم هذه التجارة مع الزمن إلى أن اكتشفت طرق بحرية جديدة، فانتقل زمامها إلى أيد أخرى.
ولم يكن تأثير الحروب الصليبية في الصناعة والفنون أقل من ذلك، فقد استوقفت نفائس الشرق الباهرة أنظار السنيورات الصليبيين مع جلفهم، فوجدوا في التجارة وسيلة تقليدها، فنرى اقتباس نفائس الشرق في أسلحة الغرب وثيابه ومساكنه في القرن الثاني عشر، والقرن الثالث عشر على الخصوص.
وكلما نمت النفائس أدت إلى تقديم الصناعة بحكم الضرورة، وتبحث الصناعة عن المنتجات التي تطلبها التجارة منها بطبيعة الحال، فتحفزها الضرورة إلى القيام بذلك من فورها.
وإذ كانت صنائع الخشب والمعادن والميناء والزجاج تتطلب معارف كثيرة فقد اقتبسها الأوربيون من آسية مع جهلهم لها قبل دور الحروب الصليبية، وعم أمرها بذلك في أوربة، فعن صور أخذت البندقية نماذج صناعة الزجاج، وعن المسلمين أخذت أوربة