وقيل: تظلّم أهل الكوفة من واليهم، فشكوه إلى المأمون، فقال ما علمت في عمالي أعدل ولا أقوم بأمر الرعية وأعود بالرفق عليهم منه، فقال رجل منهم: يا أمير المؤمنين ما أحد أولى بالعدل والإنصاف منك، فإن كان بهذه الصفة فعلى أمير المؤمنين أن يوليه بلدا بلدا حتى يلحق كل بلد من عدله مثل الذي لحقنا ويأخذ بقسطه منه كما أخذنا، وإذا فعل ذلك لم يصبنا منه أكثر من ثلاث سنين، فضحك المأمون من قوله وعزله عنهم.
وقدم المنصور البصرة قبل الخلافة، فنزل بواصل بن عطاء «١» وقال: بلغني أبيات عن سليم بن يزيد العدوي في العدل، فقم بنا إليه، فأشرف عليهم من غرفة، فقال لواصل من هذا الذي معك؟ قال: عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم، فقال: رحب على رحب، وقرب على قرب، فقال: أنه يحب أن يسمع أبياتك في العدل، فقال: سمعا وطاعة، وأنشد يقول:
حتى متى لا نرى عدلا نسرّ به ... ولا نرى لولاة الحق أعوانا
مستمسكين بحق قائمين به ... إذا تلوّن أهل الجور ألوانا
يا للرجال لداء لا دواء له ... وقائد ذي عمىّ يقتاد عميانا
فقال المنصور: وددت لو أني رأيت يوم عدل «٢» ثم مت.
وقيل: لما ولي عمر بن عبد العزيز أخذ في رد المظالم، فابتدأ بأهل بيته، فاجتمعوا إلى عمة له كان يكرمها وسألوها أن تكلمه، فقال لها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سلك طريقا، فلما قبض سلك أصحابه ذلك الطريق الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قضي الأمر إلى معاوية جره يمينا وشمالا، وأيم الله لئن مدّ في عمري لأردنه إلى ذلك الطريق الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. فقالت له: يا ابن أخي إني أخاف عليك منهم يوما عصيبا، فقال كل يوم أخافه دون يوم القيامة، فلا أمننيه الله.
وقال وهب بن منبه: إذا هم الوالي بالجور أو عمل به أدخل الله النقص في أهل مملكته في الأسواق والزروع والضروع «٣» وكل شيء، وإذا همّ بالخير والعدل أو عمل به أدخل الله البركة في أهل مملكته كذلك.
قال الوليد بن هشام: إن الرعية لتصلح بصلاح الوالي وتفسد بفساده.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أن ملكا من الملوك خرج يسير في مملكته متنكرا، فنزل على رجل له بقرة تحلب قدر ثلاث بقرات، فتعجب الملك من ذلك وحدثته نفسه بأخذها، فلما كان من الغد حلبت له النصف مما حلبت بالأمس، فقال له الملك: ما بال حلبها نقص أرعت في غير مرعاها بالأمس؟ فقال: لا ولكن أظن أن ملكنا رآها أو وصله خبرها فهمّ بأخذها، فنقص لبنها، فإن الملك إذا ظلم أو همّ بالظلم ذهبت البركة. فتاب الملك وعاهد ربه في نفسه أن لا يأخذها ولا يحسد أحدا من الرعية، فلما كان من الغد حلبت عادتها.
ومن المشهور بأرض المغرب أن السلطان بلغه أن امرأة لها حديقة فيها القصب الحلو وأن كل قصبة منها تعصر قدحا، فعزم الملك على أخذها منها، ثم أتاها وسألها عن ذلك، فقالت: نعم، ثم إنها عصرت قصبة، فلم يخرج منها نصف قدح، فقال لها: أين الذي كان يقال؟
فقالت: هو الذي بلغك إلا أن يكون السلطان قد عزم على أخذها مني، فارتفعت البركة منها، فتاب الملك وأخلص لله النية وعاهد الله أن لا يأخذها منها أبدا، ثم أمرها فعصرت قصبة منها فجات ملء قدح.
وحكى سيدي أبو بكر الطرطوشي رحمه الله في كتابه «سراج الملوك» قال: حدثني بعض الشيوخ ممن كان يروي الأخبار بمصر قال: كان بصعيد مصر نخلة تحمل عشرة أرادب ولم يكن في ذلك الزمان نخلة تحمل نصف ذلك، فغصبها السلطان، فلم تحمل شيئا في ذلك العام، ولا تمرة واحدة. وقال لي شيخ من أشياخ الصعيد: أعرف هذه النخلة وقد شاهدتها وهي تحمل عشرة أرادب وستين ويبة وكان صاحبها يبيعها في سني الغلاء كل ويبة بدينار.
وحكي أيضا رحمه الله تعالى قال: شهدت في الإسكندرية والصيد مطلق للرعية السمك يطفو على الماء لكثرته، وكانت الأطفال تصيده بالخرق من جانب البحر، ثم حجزه الوالي ومنع الناس من صيده، فذهب السمك حتى لا يكاد يوجد إلى يومنا هذا، وهكذا تتعدى سرائر الملوك وعزائمهم ومكنون ضمائرهم إلى الرعية إن خيرا