أعظم الناس من الله مخافة وأتعبهم لله عز وجل بدنا، وأجدّهم في أمر الله، لا تأخذه في الله لومة لائم، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، أما والله ما كان تغلق من دونه الأبواب ولا كان دونه حجاب صلى الله عليه وسلم.
وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة قط ولا خادما له، ولا ضرب بيده شيئا إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما إلا أن يكون إثما أو قطيعة رحم فيكون أبعد الناس منه.
وقال إبراهيم بن عباس: لو وزنت كلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحاسن الناس لرجحت، وهي قوله عليه الصلاة والسلام: «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم» ، وفي رواية أخرى فسعوهم ببسط الوجه والخلق الحسن.
وعنه صلى الله عليه وسلم: «حسن الخلق زمام من رحمة الله تعالى في أنف صاحبه، والزمام بيد الملك، والملك يجره إلى الخير والخير يجره إلى الجنة، وسوء الخلق زمام من عذاب الله تعالى في أنف صاحبه، والزمام بيد الشيطان، والشيطان يجره إلى الشر، والشر يجره إلى النار.
وقال بعض السلف: الحسن الخلق ذو قرابة عند الأجانب والسيء الخلق أجنبي عند أهله.
وقال الفضيل: لأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إليّ من أن يصحبني عابد سيء الخلق، لأن الفاجر إذا حسن خلقه خف على الناس وأحبوه، والعابد إذا ساء خلقه مقتوه.
(بيت منفرد) :
إذا رام التخلّق جاذبته ... خلائقه إلى الطبع القديم «١»
قيل: أبى الله لسيء الخلق التوبة لأنه لا يخرج من ذنب إلا دخل في ذنب آخر لسوء خلقه.
وعن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل شيء لم يقل ما بال فلان، ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون، حتى لا يفضح أحدا، وعنه صلى الله عليه وسلم: «ما شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق» ، وعنه أيضا صلى الله عليه وسلم قال:
«ثلاث من كن فيه كن له، من صدق لسانه زكا عمله، ومن حسنت نيّته زيد في رزقه، ومن حسن برّه لأهل بيته زيد له في عمره، ثم قال: وحسن الخلق وكف الأذى يزيدان في الرزق.
وقيل: سوء الخلق يعدي لأنه يدعو إلى أن يقابل بمثله.
وكتب الحسن بن علي إلى أخيه الحسين رضي الله عنهم في إعطائه الشعراء، فكتب إليه الحسين: أنت أعلم مني بأن خير المال ما وقي به العرض. فانظر إلى شرف أدبه، وحسن خلقه كيف ابتدأ كتابه بأنت أعلم مني، وكان بينه وبين أخيه كلام، فقيل له: ادخل على أخيك، فهو أكبر منك، فقال: إني سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيما اثنين جرى بينهما كلام، فطلب أحدهما رضا الآخر كان سابقه إلى الجنة وأنا أكره أن أسبق أخي الأكبر إلى الجنة، فبلغ ذلك الحسن، فجاءه عاجلا رضي الله عنهما، وأنشد في المعنى:
وإنّي لألقى المرء أعلم أنّه ... عدوّ وفي أحشائه الضّغن كامن
فأمنحه بشرا فيرجع قلبه ... سليما وقد ماتت لديه الضغائن
وسرق بعض حاشية جعفر بن سليمان جوهرة نفيسة وباعها بمال جزيل، فأنفذ إلى الجوهريين بصفتها، فقالوا باعها فلان من مدة، ثم إن ذلك الرجل الذي سرقها قبض عليه وأحضر بين يدي جعفر، فلما رأى ما ظهر عليه قال له: أراك قد تغير لونك ألست يوم كذا طلبت مني هذه الجوهرة فوهبتها لك، وأقسم بالله لقد أنسيت هذا، ثم أمر للجوهري بثمنها، وقال للرجل: خذها الآن حلالا طيبا وبعها بالثمن الذي يطيب خاطرك به، لا تبع بيع خائف.
ودخل محمد بن عباد على المأمون، فجعل يعممه بيده وجارية على رأسه تتبسم، فقال لها المأمون: ممّ تضحكين؟ فقال ابن عباد: أنا أخبرك يا أمير المؤمنين تتعجب من قبحي وإكرامك إياي، فقال: لا تعجبي فإن تحت هذه العمامة كرما ومجدا.
قال الشاعر:
وهل ينفع الفتيان حسن وجوههم ... إذا كانت الأعراض غير حسان
فلا تجعل الحسن الدليل على الفتى ... فما كلّ مصقول الحديد يماني «٢»