وحكي أن بهرام الملك خرج يوما للصيد فانفرد عن أصحابه، فرأى صيدا، فتبعه طامعا في لحاقه حتى بعد عن عسكره، فنظر إلى راع تحت شجرة، فنزل عن فرسه ليبول، وقال للراعي: احفظ علي فرسي حتى أبول، فعمد الراعي إلى العنان وكان ملبسا ذهبا كثيرا، فاستغفل بهرام وأخرج سكينا، فقطع أطراف اللجام وأخذ الذهب الذي عليه، فرفع بهرام نظره إليه، فرآه فغضّ بصره «١» وأطرق برأسه إلى الأرض وأطال الجلوس حتى أخذ الرجل حاجته، ثم قام بهرام، فوضع يده على عينيه، وقال للراعي قدم إليّ فرسي، فإنه قد دخل في عيني من مسافي «٢» الريح، فلا أقدر على فتحهما، فقدمه إليه، فركب وسار إلى أن وصل إلى عسكره، فقال لصاحب مراكبه: إن أطراف اللجام قد وهبتها، فلا تتهمن بها أحدا.
وذكر أن أنو شروان وضع الموائد للناس في يوم نوروز «٣» وجلس، ودخل وجوه أهل مملكته في الإيوان، فلما فرغوا من الطعام جاءوا بالشراب وأحضرت الفواكه والمشموم «٤» في آنية الذهب والفضة، فلما رفعت آنية المجلس أخذ بعض من حضر جام ذهب وزنه ألف مثقال «٥» وخبأه تحت ثيابه وأنوشروان يراه، فلما فقده الشرابي صاح بصوت عال: لا يخرجن أحد حتى يفتش، فقال كسرى: ولم؟ فأخبره بالقضية، فقال: قد أخذه من لا يرده ورآه من لا ينم عليه «٦» ، فلا تفتش أحدا فأخذ الرجل الجام ومضى فكسره، وصاغ منه منطقة وحلية لسيفه وجدد له كسوة جميلة.
فلما كان في مثل ذلك اليوم «٧» جلس الملك ودخل ذلك الرجل بتلك الحلية، فدعاه كسرى، وقال له: هذا من ذاك؟ فقبّل الأرض، وقال: نعم، أصلحك الله.
وقال عبد الله بن طاهر: كنا عند المأمون يوما، فنادى بالخادم: يا غلام، فلم يجبه أحد، ثم نادى ثانيا، وصاح يا غلام، فدخل غلام تركي وهو يقول: ما ينبغي للغلام أن يأكل ويشرب كلما خرجنا من عندك تصيح يا غلام يا غلام إلى كم يا غلام، فنكس المأمون رأسه طويلا، فما شككت أنه يأمرني بضرب عنقه، ثم نظر إليّ فقال:
يا عبد الله إن الرجل إذا حسنت أخلاقه ساءت أخلاق خدمه، وإذا ساءت أخلاقه حسن أخلاق خدمه، وإنا لا نستطيع أن نسيء أخلاقنا لنحسن أخلاق خدمنا.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ورد علينا الوليد بن عتبة بن أبي سفيان المدينة واليا، وكأن وجهه ورقة من ورق المصحف، فوالله ما ترك فينا فقيرا إلا أغناه، ولا مديونا إلا أدى عنه دينه، وكان ينظر إلينا بعين أرق من الماء، ويكلمنا بكلام أحلى من الجنيّ «٨» ولقد شهدت منه مشهدا لو كان من معاوية لذكرته، تغدينا يوما عنده، فأقبل الفراش بصحفة، فعثر في وسادة، فوقعت الصحفة من يده، فوالله ما ردها إلا ذقن الوليد، وانكب جميع ما فيها في حجره فبقي الغلام متمثلا واقفا ما معه من روحه إلا ما يقيم رجليه، فقام الوليد فدخل، فغيّر ثيابه، وأقبل علينا تبرق أسارير جبهته، فأقبل على الفراش وقال يا بائس ما أرانا إلا روّعناك، إذهب، فأنت وأولادك أحرار لوجه الله تعالى.
ومرض أحمد بن أبي دؤاد، فعاده المعتصم، وقال:
نذرت إن عافاك الله تعالى أن أتصدق بعشرة آلاف دينار، فقال أحمد: يا أمير المؤمنين، فاجعلها في أهل الحرمين، فقد لقوا من غلاء الأسعار شدة، فقال: نويت أن أتصدق بها على من ههنا، وأطلق لأهل الحرمين مثلها، فقال أحمد: متّع الله الإسلام وأهله بك يا أمير المؤمنين، فإنك كما قال النميري لأبيك الرشيد رحمة الله تعالى عليه:
إن المكارم والمعروف أودية ... أحلّك الله منها حيث تجتمع
من لم يكن بأمين الله معتصما ... فليس بالصلوات الخمس ينتفع
وقيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت حسن الخلق؟
فقال: من قيس بن عاصم، بينما هو ذات يوم جالس في داره إذ جاءته خادم له بسفود عليه شواء حار، فنزعت السفود من اللحم وألقته خلف ظهرها فوقع على ابن له، فقتله لوقته، فدهشت الجارية «٩» ، فقال: لا روع عليك أنت حرة لوجه الله تعالى.