وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا رأى أحدا من عبيده يحسن صلاته يعتقه، فعرفوا ذلك من خلقه، فكانوا يحسنون الصلاة مراءاة له، فكان يعتقهم، فقيل له في ذلك، فقال: من خدعنا في الله انخدعنا له.
وروي أن أبا عثمان الزاهد اجتاز ببعض الشوارع في وقت الهاجرة، فألقي عليه من فوق سطح طست رماد، فتغير أصحابه، وبسطوا ألسنتهم في الملقي للرماد، فقال أبو عثمان: لا تقولوا شيئا، فإن من استحق أن يصب عليه النار، فصولح بالرماد لم يجز له أن يغضب.
وقيل لإبراهيم بن أدهم «١» تغمده الله تعالى برحمته: هل فرحت في الدنيا قط؟ فقال: نعم مرتين إحداهما أني كنت قاعدا ذات يوم، فجاء إنسان فبال عليّ، والثانية كنت جالسا فجاء إنسان فصفعني.
وروي أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه دعا غلاما له، فلم يجبه، فدعاه ثانيا وثالثا فرآه مضطجعا، فقال: أما تسمع يا غلام؟ قال: نعم. قال: فما حملك على ترك جوابي؟ قال: أمنت عقوبتك، فتكاسلت، فقال: اذهب فأنت حر لوجه الله تعالى.
وحكي أن أبا عثمان الحيري دعاه إنسان إلى ضيافة، فلما وافى باب الدار قال له الرجل: يا أستاذ ليس لي وجه في دخولك، فانصرف رحمك الله، فانصرف أبو عثمان، فلما وافى منزله عاد الرجل إليه، وقال: يا أستاذ ندمت وأخذ يعتذر له، وقال: احضر الساعة، فقام معه فلما وافى داره قال له مثل ما قال في الأولى، ثم فعل به ذلك أربع مرات، وأبو عثمان ينصرف ويحضر، ثم قال: يا أستاذ إنما أردت بذلك اختبارك والوقوف على أخلاقك، ثم جعل يعتذر له ويمدحه. فقال أبو عثمان: لا تمدحني على خلق تجده في الكلاب، فإن الكلب إذا دعي حضر وإذا زجر انزجر.
وقال الحارث بن قصي: يعجبني من القرّاء كل فصيح مضحاك، فأما الذي تلقاه ببشر ويلقاك بوجه عبوس فلا كثّر الله في المسلمين مثله.
ومن محاسن الأخلاق ما حكي عن القاضي يحيى بن أكثم قال: كنت نائما ذات ليلة عند المأمون، فعطش، فامتنع أن يصيح بغلام يسقيه، وأنا نائم، فينغص عليّ نومي، فرأيته وقد قام يمشي على أطراف أصابعه حتى أتى موضع الماء وبينه وبين المكان الذي فيه الكيزان نحو من ثلاثمائة خطوة، فأخذ منها كوزا، فشرب، ثم رجع يمشي على أطراف أصابعه حتى قرب من الفراش الذي أنا عليه، فخطا خطوات خائف لئلا ينبهني حتى صار إلى فراشه، ثم رأيته آخر الليل قام يبول، وكان يقوم في أول الليل وآخره، فقعد طويلا يحاول أن أتحرك فيصيح بالغلام، فلما تحركت وثب قائما وصاح يا غلام، وتأهب للصلاة. ثم جاءني، فقال لي: كيف أصبحت يا أبا محمد، وكيف كان مبيتك؟
قلت: خير مبيت جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين، قال:
لقد استيقظت للصلاة، فكرهت أن أصيح بالغلام، فأزعجك، فقلت يا أمير المؤمنين قد خصك الله تعالى بأخلاق الأنبياء، وأحب لك سيرتهم، فهنّاك الله تعالى بهذه النعمة، وأتمها عليك، فأمر لي بألف دينار، فأخذتها وانصرفت.
قال: وبت عنده ذات ليلة، فانتبه وقد عرض له السعال، فجعلت أرمقه، وهو يحشو فمه بكم قميصه يدفع به السعال حتى غلبه، فسعل وأكب على الأرض لئلا يعلو صوته، فأنتبه.
قال يحيى، وكنت معه يوما في بستان ندور فيه، فجعلنا نمر بالريحان، فيأخذ من الطاقة والطاقتين ويقول لقيم البستان: أصلح هذا الحوض، ولا تغرس في هذا الحوض شيئا من البقول، قال يحيى: ومشينا في البستان من أوله إلى آخره، وكنت أنا مما يلي الشمس والمأمون مما يلي الظل، فكان يجذبني أن أتحول أنا في الظل، ويكون هو في الشمس، فأمتنع من ذلك حتى بلغنا آخر البستان، فلما رجعنا قال: يا يحيى والله لتكونن في مكاني ولأكونن في مكانك حتى آخذ نصيبي من الشمس كما أخذت نصيبك، وتأخذ نصيبك من الظل كما أخذت نصيبي. فقلت: والله يا أمير المؤمنين لو قدرت أن أقيك يوم الهول بنفسي لفعلت، فلم يزل بي حتى تحولت إلى الظل وتحول هو إلى الشمس، ووضع يده على عاتقي، وقال: بحياتي عليك إلا ما وضعت يدك على عاتقي مثل ما فعلت أنا، فإنه لا خير في صحبة من لا ينصف.
انظر إلى أخلاقهم رضي الله تعالى عنهم ما أحسنها