بكر الهذلي لم يعد علي حديثا قط. وقيل إن أبا العباس كان يحدثه يوما إذ عصفت الريح فأرمت طستا من سطح إلى المجلس، فارتاع من حضر ولم يتحرك الهذلي ولم تزل عينه مطابقة لعين السفاح فقال: ما أعجب شأنك يا هذلي، فقال: إن الله يقول: ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ
«١» . وإنما لي قلب واحد، فلما غمره النور بمحادثة أمير المؤمنين لم يكن فيه لحادث مجال، فلو انقلبت الخضراء على الغبراء «٢» ما أحسست بها ولا وجمت لها «٣» ، فقال السفاح لئن بقيت لك لأرفعن مكانك، ثم أمر له بمال جزيل وصلة كبيرة. وكان ابن خارجة يقول: ما غلبني أحد قط غلبة رجل يصغي إلى حديثي.
وفي نوابغ الحكم: أكرم حديث أخيك بانصاتك وصنه من وصمة التفاتك. وقيل: من حق الملك إذا تثاءب أو ألقى المروحة من يده أو مدّ رجليه أو تمطّى «٤» أو اتكأ أو فعل ما يدل على كسله أن يقوم من بحضرته، وكان أردشير إذا تمطّى قام سمّاره «٥» .
ومن حق الملك أن لا يعاد عليه حديث وإن طال الدهر. قال روح بن زنباع أقمت مع عبد الملك سبع عشرة سنة، فما أعدت عليه حديثا إلا مرة واحدة، فقال لي: قد سمعته منك. وعن الشعبي قال: ما حدثت بحديث مرتين رجلا بعينه. وقال عطاء بن أبي رباح: إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأني لم أسمعه قط، وقد سمعت به من قبل أن يولد.
وقيل: المودة طلاقة الوجه والتودد إلى الناس. وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: إن المسلمين إذا التقيا، فضحك كل واحد منهما في وجه صاحبه ثم أخذ بيده تحاتت ذنوبهما كتحاتّ ورق الشجر، وقيل: البشر يدل على السخاء كما يدل النور على الثمر. وقيل: من السنّة إذا حدثت القوم أن لا تقبل على واحد منهم، ولكن اجعل لكل واحد منهم نصيبا.
وقالوا: إذا أردت حسن المعاشرة فالق عدوك وصديقك بالطلاقة ووجه الرضا والبشاشة ولا تنظر في عطفيك «٦» ولا تكثر الالتفات ولا تقف على الجماعات، وإذا جلست فلا تتكبر على أحد وتحفّظ من تشبيك أصابعك، ومن العبث بلحيتك، ومن اللعب بخاتمك، وتخليل أسنانك، وإدخال أصبعك في أنفك، وكثرة بصاقك، وكثرة التمطي والتثاؤب في وجوه الناس وفي الصلاة، وليكن مجلسك هادئا وحديثك منظوما مرتبا، واصغ إلى كلام مجالسك واسكت عن المضاحك ولا تتصنع تصنع المرأة في التزين، ولا تلح في الحاجات ولا تشجع أحدا على الظلم ولا تهازل أمتك ولا عبدك، فيسقط وقارك عندهما، وإذا خاصمت فانصف وتحفظ من جهلك وتجنب عجلتك وتفكر في حجّتك، ولا تكثر الإشارة بيدك ولا الالتفات إلى من وراءك واهدىء غضبك وتكلم، وإذا قرّبك سلطان فكن منه على حذر، واحذر انقلابه عليك وكلمه بما يشتهي ولا يحملنك لطفه بك على أن تدخل بينه وبين أهله وحشمه، وإن كنت لذلك مستحقا عنده.
وإياك وصديق العافية «٧» فإنه أعدى الأعداء ولا تجعل مالك أكرم من عرضك، ولا تجالس الملوك فإن فعلت فالتزم ترك الغيبة ومجانبة الكذب وصيانة السر وقلة الحوائج وتهذيب الألفاظ والمذاكرة بأخلاق الملوك والحذر منهم. وإن ظهرت المودة، ولا تتجشأ بحضرتهم ولا تخلل أسنانك بعد الأكل عندهم، ولا تجالس العامة فإن فعلت فآداب ذلك ترك الخوض في حديثهم وقلة الإصغاء إلى أراجيفهم والتغافل عما يجري من سوء ألفاظهم.
وإياك أن تمازح لبيبا أو سفيها، فإن اللبيب يحقد عليك والسفيه يتجرأ عليك، ولأن المزاح يخرق الهيبة ويذهب بماء الوجه ويعقب الحقد ويذهب بحلاوة الإيمان والود ويشين فقه الفقيه ويجرّىء السفيه ويميت القلب ويباعد عن الرب تعالى ويكسب الغفلة والذلة، ومن بلي في مجلس بمزاح أو لغط، فليذكر الله عند قيامه، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، غفر له ما كان في مجلسه ذلك.