قال: عمارة بن حمزة غصبني ضيعتي، فقال المنصور: يا عمارة قم، فاقعد مع خصمك، فقال: ما هو لي بخصم إن كانت الضيعة له، فلست أنازعه فيها، وإن كانت لي فقد وهبتها له، ولا أقوم من مقام شرفني به أمير المؤمنين ورفعني، وأقعد في أدنى منه لأجل ضيعة.
وتحدث السفاح هو وأم سلمة يوما في نزاهة نفس عمارة وكبره، فقالت له: ادع به وأنا أهب له سبحتي هذه، فإن ثمنها خمسون ألف دينار، فإن هو قبلها علمنا أنه غير نزه النفس، فوجه إليه فحضر، فحادثته ساعة، ثم رمت إليه بالسبحة، وقالت: هي من الطرف «١» وهي لك، فجعلها عمارة بين يديه، ثم قام وتركها، فقالت: لعله نسيها، فبعثت بها إليه مع خادم فقام للخادم: هي لك، فرجع الخادم فقال: قد وهبها لي، فأعطت أم سلمة للخادم ألف دينار واستعادتها منه.
وأهدى عبيد الله بن السري إلى عبد الله بن طاهر لما ولي مصر مائة وصيف مع كل وصيف ألف دينار، ووجه إليه بذلك ليلا فرده وكتب إليه لو قبلت هديتك ليلا لقبلتها نهارا فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ
«٢» .
وكان سبب فتح المعتصم عمورية أن امرأة من الثغر سبيت، فنادت وامحمداه وامعتصماه، فبلغه الخبر، فركب لوقته وتبعه الجيش فلما فتحها قال: لبيك أيتها المنادية.
وكان سعيد بن عمرو بن العاص ذا نخوة وهمة، قيل له في مرضه: إن المريض يستريح إلى الأنين وإلى شرح ما به إلى الطبيب، فقال: أما الأنين، فهو جزع وعار، والله لا يسمع الله مني أنينا، فأكون عنده جزوعا، وأما وصف ما بي إلى الطبيب، فو الله لا يحكم غير الله في نفسي إن شاء أمسكها، وإن شاء قبضها.
ومن كبر النفس ما روي عن قيس بن زهير أنه أصابته الفاقة واحتاج فكان يأكل الحنظل «٣» حتى قتله، ولم يخبر أحدا بحاجته.
ومن الشرف والرياسة حفظ الجوار، وحمى الذمار.
وكانت العرب ترى ذلك دينا تدعو إليه وحقا واجبا تحافظ عليه، وكان أبو سفيان بن حرب إذا نزل به جار قال: يا هذا إنك اخترتني جارا أو اخترت داري دارا، فجناية يدك عليّ دونك وإن جنت عليك يد، فاحتكم حكم الصبي على أهله.
وكان الفرزدق يجير من عاذ بقبر أبيه غالب بن صعصعة، فمن استجار بقبر أبيه فأجاره امرأة من بني جعفر بن كلاب خافت لما هجا الفرزدق بني جعفر أن يسميها وينسبها، فعاذت بقبر أبيه، فلم يذكر لها اسما ولا نسبا، ولكن قال:
عجوز تصلي الخمس عاذت بغالب ... فلا والذي عاذت به لا أضيرها «٤»
وقال مروان بن أبي حفصة:
هم يمنعون الجار حتى كأنّما ... لجارهم بين السماكين منزل «٥»
وقال ابن نباتة:
ولو يكون سواد الشعر في ذمم ... ما كان للشيب سلطان على القمم
وقيل: إن الحجاج أخذ يزيد بن المهلب بن أبي صفرة وعذبه واستأصل موجوده وسجنه، فتوصل يزيد بحسن تلطفه وأرغب السجان واستماله، وهرب هو والسجان، وقصد الشام إلى سليمان بن عبد الملك بن مروان، وكان الخليفة في ذلك الوقت الوليد بن عبد الملك، فلما وصل يزيد بن المهلب إلى سليمان بن عبد الملك أكرمه وأحسن إليه، وأقامه عنده، فكتب الحجاج إلى الوليد يعلمه أن يزيد هرب من السجن وأنه عند سليمان بن عبد الملك أخي أمير المؤمنين، وولي عهد المسلمين وأن أمير المؤمنين أعلى رأيا. فكتب الوليد إلى أخيه سليمان بذلك، فكتب سليمان إلى أخيه يقول: يا أمير المؤمنين إني ما أجرت يزيد بن المهلب إلا لأنه هو وأبوه وإخوته من صنائعنا قديما وحديثا، ولم أجر عدوا لأمير المؤمنين، وقد كان الحجاج فصده وعذبه وأغرمه أربعة آلاف ألف درهم ظلما، ثم طالبه بعدها بثلاثة آلاف ألف درهم وقد صار إلي واستجار بي، فأجرته وأنا أغرم عنه هذه الثلاثة آلاف ألف درهم، فإن رأى أمير المؤمنين، أن لا يخزيني في ضيفي فليفعل، فإنه أهل الفضل والكرم.
فكتب إليه الوليد إنه لا بد أن ترسل إليّ يزيد مغلولا