للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

إذا كنت بين الجهل والحلم قاعدا ... وخيّرت أنّى شئت فالحلم أفضل

ولكن إذا أنصفت من ليس منصفا ... ولم يرض منك الحلم فالجهل أمثل

وقال الأحنف بن قيس «١» :

وذي ضغن أبيت القول عنه ... بحلم فاستمرّ على المقال

ومن يحلم وليس له سفيه ... يلاق المعضلات من الرجال

وقال آخر:

فإن كنت محتاجا إلى الحلم إنّني ... إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج

ولي فرس للخير بالخير ملجم ... ولي فرس للشرّ بالشرّ مسرج

فمن رام تقويمي فإنّي مقوّم ... ومن رام تعويجي فإنّي معوّج

وقال آخر:

فإن قيل حلم قلت للحلم موضع ... وحلم الفتى في غير موضعه جهل

اللهم إنا نعوذ بك أن نجهل أو يجهل علينا برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

الباب الثالث والثلاثون في الجود والسخاء والكرم ومكارم الأخلاق واصطناع المعروف وذكر الأمجاد وأحاديث الأجواد

اعلم أن الجود بذل المال، وأنفعه ما صرف في وجه استحقاقه، وقد ندب الله تعالى إليه في قوله تعالى: لَنْ

تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ

«٢» .

قيل: إن الجود والسخاء والإيثار بمعنى واحد. وقيل:

من أعطى البعض وأمسك البعض فهو صاحب سخاء، ومن بذل الأكثر فهو صاحب جود، ومن آثر غيره بالحاضر، وبقي هو في مقاساة الضرر فهو صاحب إيثار.

وأصل السخاء هو السماحة، وقد يكون المعطي بخيلا إذا صعب عليه البذل، والممسك حيا إذا كان لا يستصعب العطاء.

فمن الإيثار ما حكي عن حذيفة العدوي أنه قال:

انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي في القتلى ومعي شيء من الماء، وأنا أقول، إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به بين القتلى، فقلت له: أسقيك، فأشار إليّ أن نعم، فإذا برجل يقول: آه، فأشار إليّ ابن عمي أن انطلق إليه واسقه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك، فأشار إليّ أن نعم. فسمع آخر يقول: آه، فأشار إليّ أن انطلق إليه، فجئته، فإذا هو قد مات. فرجعت إلى هشام، فإذا هو قد مات. فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.

ومن عجائب ما ذكر في الإيثار:

ما حكاه أبو محمد الأزدي قال: لما احترق المسجد بمرو، ظن المسلمون أن النصارى أحرقوه، فأحرقوا خاناتهم، فقبض السلطان على جماعة من الذين أحرقوا الخانات، وكتب رقاعا فيها القطع والجلد والقتل ونثرها عليهم، فمن وقع عليه رقعة فعل به ما فيها. فوقعت رقعة فيها القتل بيد رجل، فقال: والله ما كنت أبالي لولا أمّ لي.

وكان بجنبه بعض الفتيان، فقال له: في رقعتي الجلد وليس لي أم، فخذ أنت رقعتي وأعطني رقعتك. ففعل، فقتل ذلك الفتى وتخلص هذا الرجل.

وقيل لقيس بن سعد: هل رأيت قط أسخى منك؟ قال:

نعم، نزلنا بالبادية على امرأة، فجاء زوجها، فقالت له: إنه نزل بنا ضيفان، فجاءنا بناقة فنحرها، وقال: شأنكم. فلما كان من الغد جاء بأخرى فنحرها، وقال: شأنكم، فقلنا:

ما أكلنا من التي نحرت البارحة إلا القليل، فقال إني لا أطعم ضيفاني البائت. فبقينا عنده أياما، والسماء تمطر وهو يفعل كذلك، فلما أردنا الرحيل وضعنا مائة دينار في بيته، وقلنا للمرأة اعتذري لنا إليه ومضينا، فلما ارتفع النهار إذا برجل يصيح خلفنا: قفوا أيها الركب اللئام،

<<  <   >  >>