بالسائل مع البذل. وقدم رجل من قريش من سفر، فمر على رجل من الأعراب على قارعة الطريق قد أقعده الدهر وأضرّ به المرض، فقال له: يا هذا أعنا على الدهر، فقال لغلامه: ما بقي معك من النفقة، فادفعه إليه، فصب في حجره أربعة آلاف درهم فهمّ ليقوم، فلم يقدر من الضعف فبكى، فقال له الرجل: ما يبكيك لعلك استقللت ما دفعناه إليك؟ فقال: لا والله ولكن ذكرت ما تأكل الأرض من كرمك فأبكاني.
وقال بعضهم: قصد رجل إلى صديق له فدق عليه الباب، فخرج إليه وسأله عن حاجته، فقال: علي دين كذا وكذا، فدخل الدار وأخرج إليه ما كان عليه، ثم دخل الدار باكيا، فقالت له زوجته: هلا تعللت حيث شقّت عليك الإجابة «١» ، فقال: إنما أبكي لأني لم أتفقد حاله حتى احتاج إليّ أن سألني.
ويروى أن عبد الله بن أبي بكر، وكان من أجود الأجواد، عطش يوما في طريقه، فاستسقى من منزل امرأة، فأخرجت له كوزا، وقامت خلف الباب وقالت:
تنحوا عن الباب، وليأخذه بعض غلمانكم، فإنني امرأة عزب مات زوجي منذ أيام، فشرب عبد الله الماء وقال:
يا غلام احمل إليها عشرة آلاف درهم، فقالت: سبحان الله أتسخر مني؟ فقال: يا غلام احمل إليها عشرين ألفا، فقالت: أسأل الله العافية، فقال: يا غلام احمل إليها ثلاثين، فما أمست، حتى كثر خطابها. وكان رضي الله تعالى عنه ينفق على أربعين دارا من جيرانه عن يمينه، وأربعين عن يساره، وأربعين أمامه، وأربعين خلفه، ويبعث إليهم بالأضاحي والكسوة في الأعياد، ويعتق في كل عيد مائة مملوك رضي الله تعالى عنه.
ولما مرض قيس بن سعد بن عبادة استبطأ إخوانه في العيادة، فسأل عنهم فقيل له: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين. فقال: أخزى الله مالا يمنع عني الإخوان من الزيارة، ثم أمر مناديا ينادي من كان لقيس عنده مال، فهو منه في حل. فكسرت عتبة بابه بالعشي لكثرة العواد.
وكان عبد الله بن جعفر من الجود بالمكان المشهود وله فيه أخبار يكاد سامعها ينكرها لبعدها عن المعهود، وكان معاوية يعطيه ألف ألف درهم في كل سنة، فيفرقها في الناس ولا يرى إلا وعليه دين.
وسمّن رجل بهيمة ثم خرج بها ليبيعها، فمر بعبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنه، فقال: يا صاحب البهيمة أتبيعها؟ قال: لا، ولكنها هي لك هبة، ثم تركها له، وانصرف إلى بيته، فلم يلبث إلا يسيرا، وإذا بالحمالين على بابه عشرين نفرا. عشرة منهم يحملون حنطة، وخمسة لحما وكسوة، وأربعة يحملون فاكهة ونقلا، وواحد يحمل مالا، فأعطاه جميع ذلك، واعتذر إليه رضي الله تعالى عنه.
ولما مات معاوية رضي الله تعالى عنه، وفد عبد الله بن جعفر على يزيد ابنه، فقال: كم كان أمير المؤمنين معاوية يعطيك، فقال: كان رحمه الله يعطيني ألف ألف، فقال يزيد قد زدناك لترحمك عليه ألف ألف. فقال: بأبي وأمي أنت، فقال، ولهذه ألف ألف، فقال: أما أني لا أقولها لأحد بعدك، فقيل ليزيد: أعطيت هذا المال كله من مال المسلمين لرجل واحد، فقال: والله ما أعطيته إلا لجميع أهل المدينة، ثم وكّل به يزيد من صحبه وهو لا يعلم لينظر ما يفعل، فلما وصل المدينة فرّق جميع المال حتى احتاج بعد شهر إلى الدين.
وخرج رضي الله تعالى عنه وهو والحسنان، وأبو دحية الأنصاري رضي الله تعالى عنهم من مكة إلى المدينة، فأصابتهم السماء بمطر، فلجئوا إلى خباء أعرابي، فأقاموا عنده ثلاثة أيام حتى سكنت السماء «٢» ، فذبح لهم الأعرابي شاة، فلما ارتحلوا قال عبد الله للأعرابي: إن قدمت المدينة، فسل عنا، فاحتاج الأعرابي بعد سنين، فقالت له امرأته: لو أتيت المدينة، فلقيت أولئك الفتيان، فقال: قد نسيت أسماءهم، فقالت: سل عن ابن الطيار، فأتى المدينة، فلقي سيدنا الحسن رضي الله تعالى عنه، فأمر له بمائة ناقة بفحولها ورعاتها، ثم أتى الحسين رضي الله تعالى عنه، فقال: كفانا أبو محمد مؤونة الإبل، فأمر له بألف شاة، ثم أتى عبد الله بن جعفر رضي الله تعالى عنه، فقال: كفاني أخواني الإبل والشياه، فأمر له بمائة ألف درهم. ثم أتى أبا دحية رضي الله تعالى عنه، فقال: والله ما عندي مثل ما أعطوك، ولكن ائتني بابلك، فأوقرها لك تمرا. فلم يزل اليسار في عقب الأعرابي من ذلك اليوم.
وقال الحسن والحسين يوما لعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم: إنك قد أسرفت في بذل المال، فقال: بأبي أنتما.
إن الله عز وجل عوّدني أن يتفضّل عليّ، وعودته أن أتفضل على عباده، فأخاف أن أقطع العادة، فيقطع عني المادة.