وامتدحه نصيب، فأمر له بخيل، وأثاث، ودنانير ودراهم. فقال له رجل: مثل هذا الأسود تعطي له هذا المال؟ فقال: إن كان أسود فإن ثناه أبيض، ولقد استحق بما قال أكثر مما نال، وهل أعطيناه إلا ثيابا تبلى ومالا يفنى، وأعطانا مدحا يروى وثناء يبقى؟
وخرج عبد الله رضي الله تعالى عنه يوما إلى ضيعة له، فنزل على حائط به نخيل لقوم، وفيه غلام أسود يقوم عليه، فأتي بقوته ثلاثة أقراص، فدخل كلب، فدنا من الغلام، فرمى إليه بقرص، فأكله، ثم رمى إليه بالثاني والثالث، فأكلهما. وعبد الله ينظر إليه، فقال: يا غلام.
كم قوتك كل يوم؟ قال: ما رأيت؟ قال: فلم آثرت هذا الكلب؟ قال: أرضنا ما هي بأرض كلاب، وأنه جاء من مسافة بعيدة جائعا، فكرهت أن أرده، قال: فما أنت صانع اليوم؟ قال: أطوي يومي هذا، فقال عبد الله بن جعفر:
ألام على السخاء، وإن هذا لأسخى مني، فاشترى الحائط، وما فيه من النخيل والآلات واشترى الغلام، ثم أعتقه، ووهبه الحائط بما فيه من النخيل، والآلات. فقال الغلام: إن كان ذلك لي فهو في سبيل الله تعالى، فاستعظم عبد الله ذلك منه، فقال: يجود هذا وأبخل أنا؟ لا كان ذلك أبدا.
وكان عبيد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما من الأجواد، أتاه رجل وهو بفناء داره، فقام بين يديه، قال: يا ابن عباس إن لي عندك يدا وقد احتجت إليها، فصعد فيه بصره، فلم يعرفه، فقال: ما يدك؟ قال: رأيتك واقفا بفناء زمزم وغلامك يمتح لك من مائها «١» ، والشمس قد صهرتك، فظللتك بفضل كسائي حتى شربت، فقال:
أجل إني لأذكر ذلك، ثم قال لغلامه: ما عندك؟ قال:
مائتا دينار، وعشرة آلاف درهم. فقال: إدفعها إليه، وما أراها تفي بحق يده.
وقدم عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما على معاوية مرة، فأهدى إليه من هدايا النوروز حللا كثيرة ومسكا، وآنية من ذهب وفضة، ووجهها إليه مع حاجبه، فلما وضعها بين يديه نظر إلى الحاجب، وهو ينظر إليها، فقال له: هل في نفسك منها شيء؟ قال: نعم، والله إن في نفسي منها ما كان في نفس يعقوب من يوسف عليهما الصلاة والسلام، فضحك عبد الله، وقال: خذها، فهي لك، قال: جعلت فداءك أخاف أن يبلغ ذلك معاوية، فيحقد عليّ، قال: فاختمها بخاتمك، وسلمها إلى الخازن، فإذا كان وقت خروجنا حملناها إليك ليلا، فقال الحاجب: والله لهذه الحيلة في الكرم أكثر من الكرم.
وحبس معاوية عن الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهما صلاته «٢» ، فقيل: لو وجهت إلى ابن عمك عبد الله بن عباس، فإنه قدم بنحو ألف ألف، فقال الحسين وأنى تقع ألف ألف من عبد الله، فو الله لهو أجود من الريح إذا عصفت، وأسخى من البحر إذا زخر، ثم وجه إليه مع رسوله بكتاب يذكر فيه حبس معاوية صلاته عنه، وضيق حاله وأنه يحتاج إلى مائة ألف درهم، فلما قرأ عبد الله كتابه انهملت عيناه، وقال: ويلك يا معاوية أصبحت لين المهاد، رفيع العماد، والحسين يشكو ضيق الحال، وكثرة العيال؟ ثم قال لوكيله: أحمل إلى الحسين نصف ما أملكه من ذهب وفضة ودواب، وأخبره أني شاطرته «٣» ، فإن كفاه وإلا أحمل إليه النصف الثاني، فلما أتاه الرسول قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. ثقلت والله على ابن عمي، وما حسبت أنه يسمح لنا بهذا كله. رضوان الله عليهم أجمعين.
وجاء رجل من الأنصار إلى عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما فقال له: يا ابن عم محمد صلى الله عليه وسلم إنه ولد لي في هذه الليلة مولود، وإني سميته باسمك تبركا بك، وإن أمه ماتت، فقال له: بارك الله لك في الهبة، وآجرك على المصيبة، ثم دعا بوكيله، وقال له: انطلق الساعة فاشتر للمولود جارية تحضنه، وادفع لأبيه مائتي دينار لينفقها على تربيته، ثم قال للأنصاري: عد إلينا بعد أيام، فإنك جئتنا، وفي العيش يبس وفي المال قلة، فقال الأنصاري: جعلت فداءك لو سبقت حاتما بيوم ما ذكرته العرب.
وقال أبو جهم بن حذيفة يوما لمعاوية: أنت عندنا يا أمير المؤمنين كما قال ابن عبد كلال:
يقينا ما نخاف وإن ظننّا ... به خيرا أراناه يقينا
نميل على جوانبه كأنّا ... إذا ملنا نميل على أبينا