للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

نقلّبه لنخبر حالتيه ... فنخبر منهما كرما ولينا

فأمر له بمائة ألف درهم، وأنشده عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما:

بلوت الناس قرنا بعد قرن ... فلم أر غير ختّال وقال «١»

ولم أر في الخطوب أشدّ وقعا ... وأمضى من معاداة الرجال «٢»

وذقت مرارة الأشياء طرّا ... فما شيء أمرّ من السؤال «٣»

فأعطاه مائة ألف درهم.

ودخل عليه الحسن يوما وهو مضطجع على سريره، فسلم عليه، وأقعده عند رجليه وقال: ألا تعجب من قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تزعم أني لست للخلافة أهلا، ولا لها موضعا؟ فقال الحسن: أو عجبا مما قالت؟

قال: كل العجب. قال الحسن: وأعجب من هذا كله جلوسي عند رجليك، فاستحيا معاوية، واستوى جالسا، ثم قال: أقسمت عليك يا أبا محمد إلا ما أخبرتني كم عليك دينا؟ قال: مائة ألف درهم، فقال يا غلام: أعط أبا محمد ثلاثمائة ألف يقضي بها دينه، ومائة ألف يفرقها على مواليه، ومائة ألف يستعين بها على نوائبه، وسوّغها إليه الساعة «٤» .

وكان معن بن زائدة من الأجواد وكان عاملا على العراق بالبصرة، قيل: إنه أتى إليه بعض الشعراء، فأقام ببابه مدة يريد الدخول عليه، فلم يتهيأ له ذلك، فقال يوما لبعض الخدم: إذا دخل الأمير البستان، فعرّفني، فلما دخل أعلمه بذلك، فكتب الشاعر بيتا ونقشه على خشبة وألقاها في الماء الذي يدخل البستان، وكان معن جالسا على القناة، فلما رأى الخشبة أخذها، وقرأها فإذا فيها بيت مفرد:

أيا جود معن ناج معنا بحاجتي ... فليس إلى معن سواك شفيع «٥»

فقال: من الرجل صاحب هذه؟ فأتي به إليه، فقال:

كيف قلت؟ فأنشده البيت، فأمر له بعشر بدر، فأخذها وانصرف. ووضع معن الخشبة تحت بساطه، فلما كان اليوم الثاني أخرجها من تحت البساط ونظر فيها، وقال:

عليّ بالرجل صاحب هذه، فأتي به، فقال له: كيف قلت؟

فأنشده البيت، فأمر له بعشر بدر، فأخذها وانصرف.

ووضع معن الخشبة تحت بساطه، فلما كان في اليوم الثالث أخرجها، ونظر فيها، وقال: عليّ بالرجل صاحب هذه، فاتي به إليه، فقال له: كيف قلت؟ فأنشده البيت، فأمر له بعشر بدر، فأخذها وتفكر في نفسه وخاف أن يأخذ منه ما أعطاه، فخرج من البلد بما معه، فلما كان في اليوم الرابع طلب الرجل فلم يجده، فقال معن: لقد ساء والله ظنه، ولقد هممت أن أعطيه حتى لا يبقى في بيت مالي درهم، ولا دينار. وفيه يقول القائل:

يقولون معن لا زكاة لماله ... وكيف يزكّي المال من هو باذله

إذا حال حول لم تجد في دياره ... من المال إلا ذكره وجمائله

تراه إذا ما جئته متهللا ... كأنّك تعطيه الذي أنت نائله

تعوّد بسط الكف حتى لو أنه ... أراد انقباضا لم تطعه أنامله

فلو لم يكن في كفّه غير نفسه ... لجاد بها فليتق الله سائله

ومن قول معن:

دعيني أنهب الأموال حتى ... أعفّ الأكرمين عن اللئام

وكان يزيد بن المهلب من الأجواد الأسخياء، وله أخبار في الجود عجيبة. من ذلك ما حكاه عقيل بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال: لما أراد يزيد بن المهلب الخروج إلى واسط أتيته، فقلت: أيها الأمير إن رأيت أن تأذن لي، فأصحبك، قال: إذا قدمت واسط، فائتنا إن شاء الله تعالى، فسافر، وأقمت، فقال لي بعض إخواني إذهب إليه، فقلت: كان جوابه فيه ضعف، قالوا: أتريد من يزيد جوابا أكثر مما قال؟ قال: فسرت حتى قدمت عليه، فلما كان في الليل دعيت إلى السمر، فتحدث القوم حتى ذكروا الجواري، فالتفت إلى يزيد، وقال: إيه يا عقيل، فقلت:

أفاض القوم في ذكر الجواري ... فأما الأعزبون فلن يقولوا

<<  <   >  >>