قال يحيى لمنصور: قد ظننت أن رجاء توهم أنا قد وهبناه المال، وإنما أمرناه بقبضه من الوكلاء ليحفظه علينا لحاجتنا إليه في وجهنا هذا، فقال منصور: أنا استخبر لك هذا. فقال يحيى: إذن يقول لك: قل له يقبل يدي كما قبلت يده، فلا تقل له شيئا، فقد تركتها له.
وقيل: إن الرشيد وصل في يوم واحد بألف ألف وثلاثمائة ألف وخمسين ألفا. ووصل المنصور في يوم واحد لبني هاشم، ووجوه قواده بعشرة آلاف ألف دينار على ما ذكر.
وعن الأخفش الصغير قال: كان أسيد بن عنقاء الفزاري من أكبر أهل زمانه قدرا وأكثرهم أدبا، وأفصحهم لسانا، وأثبتهم جنانا، فطال عمره ونكبه دهره «١» ، فخرج عشية ينتفل لأهله «٢» ، فمر به عميلة الفزاري، فسلم عليه، وقال: ما أصارك يا عم إلى ما أرى؟ فقال: بخل مثلك بماله وصون وجهي عن مسألة الناس، قال: والله لئن بقيت إلى غد لأغيرن ما أرى من حالك، فرجع ابن عنقاء إلى أهله، فأخبرها بما قال له عميلة، فقالت له: لقد غرك كلام غلام في جنح الليل. قال: فكأنما ألقمت فاه حجرا وبات متململا بين رجاء ويأس، فلما كان وقت السحر سمع رغاء الإبل وصهيل الخيل تحت الأموال، فقال: ما هذا؟ قالوا: عميلة قد قسم ماله شطرين، وبعث إليك بشطره، فأنشأ يقول:
رآني على ما بي عميلة فاشتكى ... إلى ماله حالي فواسى وما هجر
ولما رأى المجد استعيرت ثيابه ... تردّى رداء سابغ الذيل واتزر «٣»
غلام حباه الله بالحسن يافعا ... له سيمياء لا تشقّ على البصر
كأنّ الثريا علّقت في جبينه ... وفي أنفه الشعرى وفي جيده القمر «٤»
وكان عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي من الأجواد.
قيل: إنه كان لرجل جارية يهواها، فاحتاج إلى بيعها، فابتاعها منه ابن معمر بمال جزيل، فلما قبض ثمنها أنشأت تقول:
هنيئا لك المال الذي قد قبضته ... ولم يبق في كفّيّ غير التّحسّر
أبوء بحزن من فراقك موجع ... أناجي به صدرا طويل التّفكّر
فأجابها بقوله:
ولولا قعود الدهر بي عنك لم يكن ... يفرقنا شيء سوى الموت فاعذري
عليك سلام لا زيارة بيننا ... ولا وصل إلّا أن يشاء ابن معمر
فقال ابن معمر: قد شئت وقد وهبتك الجارية وثمنها، فخذها وانصرف.
ووفد أبو الشمقمق إلى مدينة سابور يريد محمد بن عبد السلام فلما دخلها توجه إلى منزله، فوجده في دار الخراج يطالب، فدخل عليه يتوجع له، فلما رآه محمد قال:
وقد قدمت على رجال طالما ... قدم الرجال عليهم فتموّلوا
أخنى الزمان عليهم فكأنّما ... كانوا بأرض أقفرت فتحوّلوا
فقال أبو الشمقمق:
الجود أفلسهم وأذهب مالهم ... فاليوم إن راموا السماحة يبخلوا
قال: فخلع محمد ثوبه وخاتمه ودفعهما إليه، فكتب بذلك مستوفي الخراج إلى الخليفة، فوقع إلى عامله بإسقاط الخراج عن محمد بن عبد السلام في تلك السنة، وإسقاط ما عليه من البقايا، وأمر له بمائة ألف درهم معونة على مروءته.
وقال أبو العيناء: حصلت لي ضيقة شديدة، فكتمتها عن أصدقائي، فدخلت يوما على يحيى بن أكثم القاضي، فقال إن أمير المؤمنين جلس للمظالم، وأخذ القصص، فهل لك في الحضور؟ قلت: نعم، فمضيت معه إلى دار أمير المؤمنين، فلما دخلنا عليه أجلسه وأجلسني، ثم قال: يا أبا العيناء، بالألفة والمحبة ما الذي جاء بك في هذه الساعة؟ فأنشدته: